شهدت الساحة السياسية في مصر على مدى العقد الأخير تحولات عميقة جعلت من الأحزاب السياسية كيانات تعاني من الجمود وفقدان الفاعلية. فقد أصبحت هذه الأحزاب أشبه بقطع ديكور تزيّن مشهدًا سياسيًا مغلقًا، تلعب فيه دورًا ثانويًا، مقتصرًا على منح الشرعية للنظام القائم وإضفاء طابع ديمقراطي زائف على المشهد العام. ما الذي أدى إلى هذا الواقع؟ وما الذي يمكن أن تحمله الأيام القادمة لهذه الأحزاب؟
الواقع الحالي للأحزاب السياسية في مصر
تمثل الأحزاب السياسية في مصر مشهدًا متشظيًا يفتقر إلى الوحدة والاتساق. يبلغ عدد الأحزاب المصرية اليوم 87 حزبًا، إضافة إلى تلك التي لا تزال تحت التأسيس. ومعظم هذه الأحزاب صغيرة الحجم، تفتقر إلى الجماهيرية وتظل مجهولة لدى الشارع المصري. تظل الأحزاب الكبيرة موجودة، ولكنها تستمد قوتها إما من تاريخها العريق، أو من رموز سياسية تشكل مصدر جاذبيتها، أو من دعم السلطة السياسية الذي يمنحها موارد مادية ويتيح لها هامش حركة أوسع من غيرها.
ورغم وجود هذه الأحزاب، إلا أنها لم تخضع لاختبارات حقيقية يمكن أن تقيس قدرتها على الاستمرار والاستقلالية عن القادة الكاريزميين أو الدعم السياسي. ولعل انعكاس هذا الواقع يظهر جليًا في موقف الشارع المصري الذي يفتقر إلى الثقة في الأحزاب. فقد أظهر استطلاع "الباروميتر العربي" أن ثقة المصريين في أحزابهم لا تتعدى 21%، وهي النسبة الأدنى مقارنة بمؤسسات الدولة الأخرى. كما أشار استطلاع أجرته جامعة القاهرة إلى أن 63% من المصريين ليست لديهم أي انتماءات حزبية أو معلومات عن الأحزاب.
المشكلات الهيكلية والانقسامات المستمرة
تعاني الأحزاب المصرية من مشكلات هيكلية كبيرة، أبرزها الانقسامات الداخلية المستمرة. هذه الانقسامات تظهر بشكل واضح في الخلافات المتكررة حول المواقف السياسية والاستراتيجيات الانتخابية. فعلى سبيل المثال، شهدت الحركة المدنية انقسامات حول الموقف من انتخابات الرئاسة 2023، حيث أصدرت 9 أحزاب من أصل 12 بيانًا بعدم المشاركة، بينما قام رئيس حزب المصري الديمقراطي فريد زهران بإطلاق حملته الانتخابية كمرشح رئاسي. أدى هذا الخلاف إلى تجميد عضوية حزبين في الحركة.
لم تكن هذه الخلافات الأولى أو الوحيدة، فقد سبقتها خلافات أخرى حول زيارة حمدين صباحي للرئيس السوري بشار الأسد، ومواقف أخرى مثل الخلاف بين القيادي الناصري كمال أبو عيطة والناشر هشام قاسم. إلى جانب ذلك، يشهد حزب الدستور، على سبيل المثال، خلافات داخلية حول الانضمام إلى التيار الليبرالي الحر والموقف من ترشح رئيسة الحزب جميلة إسماعيل للانتخابات الرئاسية.
الفساد والانقسامات الداخلية
ليست الانقسامات وحدها التي تعصف بالأحزاب المصرية، بل الفساد أيضًا يلعب دورًا في إضعافها. ففي يوليو 2024، تم تسريب فيديو يظهر قيادات من حزب الوفد يتفقون على صفقة لتهريب آثار مصرية. أدى انتشار الفيديو إلى فصل وإسقاط عضوية القياديين المتورطين وإحالة الواقعة إلى النيابة العامة.
طبيعة البيئة التي تعمل فيها الأحزاب المصرية
تعمل الأحزاب السياسية في مصر في بيئة معادية، تحت مراقبة الأجهزة الأمنية. يظهر ذلك في حالات مثل السياسي أحمد الطنطاوي، الذي تعرض للتضييق الأمني خلال محاولته جمع التوكيلات اللازمة للترشح للرئاسة، وانتهى الأمر بسجنه وحرمانه من الترشح للانتخابات النيابية. كذلك، تعرض الناشر هشام قاسم للسجن بعد انتقاده للرئيس المصري وتأسيسه التيار الليبرالي الحر. ولم يسلم يحيى حسين عبد الهادي، مؤسس الحركة المدنية الديمقراطية، من التنكيل، حيث اختطف ووجهت له اتهامات تتعلق بالإرهاب بسبب آراء نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي.
ماذا يحمل المستقبل؟
لا يبدو أن المستقبل القريب يحمل تغييرات كبيرة في المشهد السياسي المصري. ستظل الأحزاب تعاني من الانقسامات والفساد، وتعمل في بيئة معادية لا تتيح لها النمو أو الفاعلية. وبالتالي، من المرجح أن يستمر الجمود السياسي، مع تزايد الانفصال بين الأحزاب والشارع، مما يقلص من دورها وقدرتها على التأثير.
في ظل هذه الظروف، من المحتمل أن يأتي أي تغيير مستقبلي من خارج الأحزاب، من الشارع غير المسيس، والطلاب، والحركات الاجتماعية، والجماعات العمالية. لكن هذا التغيير سيظل مرهونًا بتوافق بين القوى الراغبة في التغيير وبين مكونات من داخل جهاز الدولة ترى أن بقاء الوضع الحالي أصبح مكلفًا أكثر من فائدته.