بقلم: د. فتحي أبو الورد
لم يعرف التاريخ البشرى مهرا أعلى ولا أغلى من مهر المرأة الذى تمثل فى تعليم زوجها لها سور من القرآن ، حيث زوجه النبى صلى الله عليه وسلم إياها ، على ما معه من القرآن ، ولأن الحرف من القرآن لا تعدله كنوز الدنيا فقد اعتبر هذا المهر من هذا الصحابى الفقير المعسر أغلى وأعلى ما يمكن أن يدفع للمرأة من مهر .
وهذا ما روته كتب السنة كما جاء فى صحيح البخارى وغيره عن سهل بن سعد، قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة ، فقالت: إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال: " ما لي في النساء من حاجة " ، فقال رجل: زوجنيها، قال: " أعطها ثوبا "، قال : لا أجد، قال: "أعطها ولو خاتما من حديد"، فاعتل له – أى تعلل أنه لم يجده - فقال : "ما معك من القرآن؟ " قال: كذا وكذا، قال: " فقد زوجتكها بما معك من القرآن" . قال الزرقانى فى شرحه على موطأ مالك : " له معنيان: الأول: قد زوجتكها فعلمها ما معك من القرآن . والثاني: زوجتكها تقديراً لما معك من القرآن ".
قد يقول البعض : إن هذه حالات حدثت فى عهد النبوة ويصعب تكرارها فى زماننا ، حتى قرأت خبرا أسعدنى ، وهو الذى أعادنى بالذاكرة إلى هذه الواقعة التى وردت فى كتب السنة ، حيث طلب والد عروس أردنية مهراً لتزويج ابنته قوامه “مليون صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم”، وقال : إن المهر المؤخر المطلوب هو “مليون أخرى” وأصر الأب الأردني على تدوين هذا المهر في عقد الزواج كما يقول الخبر ، دون أن يحمل العريس أية تكاليف مالية .
وفى الحديث الذى رواه أحمد بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى علي مرة واحدة ، كتب الله عز وجل له بها عشر حسنات ".
ومليون صلاة على النبى تعنى عشرة ملايين حسنة بحساب السنة تدخل فى رصيد هذه الزوجة ، وهذا يعد من أغلى المهور فى تقدير أهل الإيمان .
وتتبعت الخبر ، وقلت لعل العريس فقير ، وأراد والد العروس أن ييسر عليه ، أو أن العروس من أسرة فقيرة ولا يريد أهلها أن يشترطوا ، فوجدت أن العريس من حملة الماجستير من ميسورى الحال ، وأن العروس فى السنة النهائية بكلية الطب وتسكن فى قلب العاصمة الأردنية عمان .
ولم أجد تفسيرا لما فعله الرجل إلا أنه من أهل الصلاح ، وأنه ارتضى دين الخاطب فزوجه ، عملا بالتوجيه النبوى : " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه " ، وأنه يفهم جيدا معنى الزواج ، على أنه نفس مؤمنة لنفس مؤمنة ، وأن الزوجين ارتضيا أن يعيشا بالإسلام ، ويحتكما إليه ، وأن قناعتهما أن السعادة الحقة تنبع من القلوب الراضية ، والنفوس المطمئنة ، المرتبطة بالله ، والمهتدية بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهى كذلك تنبع من داخل الإنسان ، لا من خارجه ، حتى ولو كان يملك كنوز الدنيا ، فإنها لا تصنع له سعادة إذا لم تنبع من داخله ، أو كما عبر الشاعر عن ذلك فقال :
ولست أرى السعادة جمع مال *** ولكن التقى هو السعيد
أتصور أن علاقة زوجية تنشأ على هذا المعانى الإيمانية ستكون - بحق - ناجحة ، وأن أسرة تقام على هذا الأساس ستعيش – يقينا - سعيدة ، وأتصور أن الزوج لو غضب يوما ما على زوجته سيكون أعظم مسكن لغضبه هو الصلاة على النبى ، هذه الصلاة التى كانت فاتحة الخير ، ومبدأ الاجتماع ، ورابطة القلوب ، وجامعة الشمل ، وكذلك الزوجة إذا غضبت سيذكرها زوجها بأن تصلى على النبى لكى تهدأ نفسها ، وسيكون من المفاخر التى يمكن أن تتحدث بها الزوجة - فيما بعد - أن المهر الذى اشترط لزواجها هو مليون صلاة على النبى صل الله عليه وسلم ، تروى ذلك للأبناء والأحفاد، ولها كل الحق أن تفخر وتسعد بهذا ، كما كانت تفخر أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، بأن الذى زوجها هو رب العزة كما جاء فى صحيح البخارى أنها كانت تقول: " زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات " ، وذلك فى قوله تعالى : " فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا" الأحزاب 37 .
وسيكون من المآثر التى يمتن بها هذا الزوج على أولاده ، والمناقب التى يعددها على مسامعهم أن مهر أمهم كان مكرمة إيمانية تقدر بمليون صلاة على النيى ، كما امتن الأعرابى قديما على أولاده باختياره أما صالحة لهم بقوله :
وأول إحسانى إليكم تخيرى لماجدة الأعراق باد عفافها
قد يفسر البعض موقف الأب على أنه "دروشة " زائدة عن الحد ، أو أن مثل هذا السلوك فى المهر " موضة قديمة " لا تصلح لزماننا ، أو أن ذلك " تكلف" و" نشاز" فى عصر أصبح الضمانة الأسرية فى عرف الناس السائد تسجيل " قائمة "، وكتابة
" مقدم ومؤخر" يضمن حق الفتاة ، ويصون مستقبلها عند الخلاف ، دون الأخذ بالاعتبار أن الضمانة الحقيقية لصون حقوق الزوجة تكمن فى دين الرجل وخلقه ، قد يفسر البعض الواقعة على هذا النحو ، ولكن المؤكد تفسيره عند الكثيرين أن مثل هذه النماذج ، تعيد للأمة سيرتها الأولى ، وتسهل على المعاصرين استيعاب تصرفات الأولين ، فما كان يستصعبه البعض فى مواقف السابقين ، ويظن أن هذا حدث من قبل ولن يتكرر ، إذا به يراه واقعا عمليا فى الحياة ، ويعلم ويوقن أن القرآن الكريم الذى شكل هذه النماذج الفريدة من قبل فى عصر الرسالة موجود بيننا ، وهو قادر أن يشكل فى الحاضر – لو اتخذناه دستورا لنا فى حياتنا - جيلا يتقارب فى الخلق والمواقف والسيرة مع من رباهم النبى ، وشاهدوا التنزيل ، وعاصروا الوحى .