د. هاني إسماعيل محمد
أستاذ اللغة العربية المساعد بكلية العلوم الإسلامية
وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
القيم التربوية والجمالية في رسالة الهَمّ والهمة لصلاح سلطان
ما هو العمل الأدبي؟ سؤال يطرحه الشهيد سيد قطب وما يلبث أن يقدم لنا إجابة شافية بالرغم من إنها موجزة، فيقول: ’’إنه التعبير عن التجربة الشعورية بصورة موحية‘‘ فقد كان الأدب – ومازال – هو المعادل الوجداني للمشاعر الإنسانية ومكنونات النفس البشرية، ومن ثم كلما كانت التجربة الفنية أصدق شعوريا، كلما كانت أكثر جمالا وإبداعا، حتى بات الصدق الشعوري أو الفني معيارا رئيسيا للإبداع والفن، لأن شخصية الأديب تتجلى أكثر ما تتجلى في صدق تعبيره عن نفسه وعن حقيقة مشاعره، على حد قول الناقد الأدبي بدوي طبانة.
ويزخر موروثنا الأدبي القديم بالعديد من المقولات والمناقشات حول ضرورة الصدق الشعوري في العمل الإبداعي، فقد أورد الجاحظ بعد اشتراطه عدم التكلف في الإبداع قول عامر بن عبد قيس: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من الآذان لم تتجاوز اللسان.
هذا الصدق الشعوري هو ما يفسر لنا وقع أدب السجون ورسائل المعتقلين في نفوسنا عند تلقيها من أول وهلة، فهي صادرة عن نفس صادقة، وروح نابضة، لا تتكلف التعبير ولا تتستر خلف زخارف الألفاظ، ونمارق المعاني.
ففي المحن دائما يصدق الإنسان مع نفسه التي تتعرى أمام مرآة المعاناة والألم، وتنخلع من كل زيف ويسقط عنها كل قناع خادع للذات أو الغير، إذ لا يكون ثمة رغبة أو رهبة، بل ثمة لحظة صدق تتفتق فيها المشاعر، وتنفجر فيها الأحاسيس، في رسائل لا تحمل بين طياتها إلا كل ما يؤمن به صاحبها من مبادئ وقيم، كاشفة عن رسالته الحقيقية في الدنيا، وهو ما يعطي أدب السجون – أو أدب الصدق الشعوري كما يجدر أن نسميه – بعدا تربويا وجماليا في آن.
وهو ما يتضح جليا في رسائل العالم الرباني الدكتور صلاح سلطان وخاصة تلك الرسالة التي بعث بها من معتقله بعد الحكم عليه بالإعدام ظلما وجورا، فهي مفعمة بالصدق الشعوري النابع من قلب نابض بقضايا مصر والأمة وعلى رأسها تحرير الأقصى والقدس وفلسطين، ولا أجد وصفا لها أدق من رسالة الهَمّ والهمة، هَمّ ثائر يحمله صاحبه يتحول إلى همة هادرة، فحينما نطق قاضي فرعون بالحكم عليه بالإعدام، أجابه – صاحب الهم والهِمَّة – على فوره: لن يضروكم إلا أذى موعدنا الأقصى.
وإن دلت هذه الإجابة فهي تدل على الاستضاءة بالقرآن الكريم والسير على هديه، فهو يعرف ما أصابه وما يصيبه ما هو إلا أذى، لا قيمة له، أذى نكرة كما يصفه البلاغيون فيقولون نكرة للتحقير، فما أحقر ما تكيدون وما أوهن ما به تؤذون.
كما تدل على القضية التي يعيش لها وبها، كما تعيش هي في وجدانه؛ قضية تحرير أولى القبلتين وثالث الحرمين مسرى النبي، وإن كانت تشير ضمنيا أنه يحاكم من أجلها بإيعاز من اليهود ومن هاودهم، وقد أشار صراحة إلى هذا في الرسالة التي بين أيدينا عندما طلب من محبيه نشر علمه وبرامجه خاصة المتعلقة بالقضية الفلسطينية فقال:
’’فأرجوكم أن تكون هذه العناية بكتبي وأبحاثي ومقالاتي وبرامجي خاصة عن مسرى الحبيب هي الوصال بيننا، هي التحدي لمن ظلمنا، لمن حرمنا أن نلقاكم وجها لوجه‘‘. وقال أيضا: ’’فإذا لم تستطيعوا أن تطلقوا جسدي الضعيف من السجن لأن هذا بيد الله وحده، فإن قوتي في رسالتي، وهي سبب سجني‘‘
يستهل سلطان رسالته – أو الجزء المنشور منها – بالتأكيد على أنه يعيش بين نورين وليس نارين على تعبيره هذين النورين هما صبره الجميل على منعه من ولده محمد السجين لمدة طويلة والصبر الطويل على ابنه المضرب عن الطعام.
تزخر الرسالة بالقيم الجمالية والقيم التربوية في آن، فمن ناحية القيم التربوية تتحول المحنة إلى منحة ونار السجان إلى نور الإيمان بالصبر الجميل، وهو ما يستدعي قول القرآن الكريم على لسان يعقوب عندما فقدَ ابنه يوسف عليهما السلام (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف: 18) وكأن سلطان يستمد من هذه القصة التي تتقاطع أحداثها مع ما يجري له وابنه؛ الزاد الإيماني، والثبات الرباني.
يقول سلطان معبرا عن معاناته ومعاناة ابنه:
’’وقد عشتُ بين نورين وليس نارين: نور الصبر الجميل على منعي من ولدي الكبير وحبيبي الأثير السجين محمد شهورا طويلة، ونور الصبر الطويل على ولدي المضرب عن الطعام منذ 240يوما الآن، وكان جسما فارعًا فصار هيكلًا فارغًا، لكني أسمع القرآن والدعاء منه كأننا معا في مقام في السماء لا الأرض، فإذا نزلت فهناك آلام مع كل لقمة أطعمها كأنها العلقم؛ لأن ولدي وصاحبي السجن محمد مضرب تمامًا، في إرادة مبهرة ومدهشة للجميع بفضل الله، ولطالما وضعت أذني على فمه وأنفه اتحسس هل لا يزال حيا يتنفس؟ ويغمى عليه ولا مغيث إلا الله، فكأني أموت كل يوم مرارا‘‘.
ومع ذلك الألم الذي يقطر من قلبه لابنه والذي عبره عنه في إحدى جلسات محاكمته متمثلا بقول حطان بن المعلى:
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
لو هـبت الريح على بعضهم لامتنعت عـيني عن الغمض
وكما يستلهم سلطان الصبر الجميل من قصة سيدنا يعقوب وابنه يوسف عليهما السلام، يستلهم إشراقة الأمل في كسر القيد، وتحطيم الغُلّ فيستدرك مؤكدا على قوة العزيمة والإرادة، مستبشرا بسلاح الدعاء، ومضيه، فيقول:
’’لكن كل هذا لم يزدنا معا إلا قوة وإصرارا، ورباطا على الحق حتى نلقى الله تعالى، ويبدو أن محمدا دخل السجن لأنه ابن القيادي صلاح الدين سلطان، وسنخرج بإذن الله - وأُعرَف بأني أبو البطل محمد سلطان. وأبشركم إخواني وأخواتي، أبنائي وبناتي، بأن الأمل يسبق العمل، والفرج قريب، وأني والله ما دعوت لكم في حياتي كما دعوت بالليل والنهار في سجداتي، وفي خلواتي مع ربي، بما يزيد عن عشر سنوات من الدعاء لكم، فاسعدوا بذلك وأرجوكم أن تكثروا لنا من الدعاء، وكلي رجاء أن يكون الدعاء مشفوعا بحمل أمانة "الحرية لرسالتي"، و" تحرير الأسرى والأقصى والدي وفلسطين‘‘
ومن يعرف هذا الرجل ذا الهمة العالية، يعرف أن هذه الرسالة ليست تنفيس عن ألم شخصي وليست بكائية من البكائيات الذاتية، فالقيادي صلاح سلطان لا يعرف التباكي، والتخاذل، بل يعرف العمل والتكاتف، لذا جاءت رسالته متضمنة بعض الوصايا العملية لمريديه ومحبيه ولكل من يحمل هَمّ الأمة والأقصى، فيطلب منهم أن يعملوا على تحرير رسالته، تحرير الأقصى من براثن الاحتلال والاستعمار ومن سموم الخنوع والخيانة فيقول:
’’فإذا لم تستطيعوا أن تطلقوا جسدي الضعيف من السجن لأن هذا بيد الله وحده، فإن قوتي في رسالتي، وهي سبب سجني، وبين أيديكم كتبي وأبحاثي وخطبي وبرامجي الفضائية، وأقدم لكم مشروع تلاميذي العلمي والتربوي، ومشروع القادة الربانيين، وكل ذلك موجود على صفحاتي وعلى الانترنت، فكلي رجاء أن تحرروا رسالتي، فإذا حملتم الرسالة وأوصلتموها إلى كل مكان في العالم، إلى موضع كل خف وحافر، إذا ترجمتموها، فإنكم تدخلون في دائرة دعواتي الخاصة مرات عديدة في اليوم الواحد لطلابي النبغاء، حملة أمانة تحرير الأقصى إنها دعوات يشهد الله أنها من أعماق القلب ومن سويداء الفؤاد، لكل من حمل شيئا مما رزقني الله، من فيض علمه سبحانه وتعالى‘‘
ثم يختم رسالته باليقين والأمل في نصر الله عندما يردد قوله تعالى:
وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا" (الإسراء: 51). "نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ" (الصف:13) وإن غدا لناظره لقريب..
أما عن القيم الجمالية فالرسالة تفيض إبداعا وجمالا، نلمحه من أول وهلة عند استهلال الرسالة بالمقابلة البيانية بين لفظتي نورين ونارين وما فيهما من جناس ناقص يجعل نفس المتلقي تتماهى مع النص وتستريح لنغم كلماته، فتكمله راضية مرضية، ذلك الإيقاع اللفظي للغة الذي يتكرر كثيرا في ألفاظ الرسالة، مثل: الصبر الطويل والصبر الجميل، ولدي الكبير وحبيبي الأثير، وقوله: كان جسما فارعا فصار هيكلا فارغا. ولفظتي مرارا وإصرارا في قوله: فكأني أموت كل يوم مرارا لكن كل هذا لم يزدنا معا إلا قوة وإصرارا. وكذلك قوله الأمل يسبق العمل، بالإضافة إلى التكرار المعنوي مثل قوله من أعماق القلب ومن سويداء الفؤاد.
فهذه النماذج وغيرها تجعل النص متناغما يشع بالإيقاع اللفظي والمعنوي الذي يسلب العقول قبل الآذان، فيجد النص قلبا مقبلا لا مدبرا.
ويزخر النص بالتناص الأدبي، والتناص في الدرس النقدي – كما يعرفه دومنيك مانجينو - : مجموع العلاقات التي تربط نصا ما بمجموعة من النصوص الأخرى وتتجلى من خلاله، ويربطها "جيني" بعلم النفس فيراها ردة فعل خلاقة من حمل ثقافي سابق، ولأن حمل سلطان هو القرآن، ذلك الحمل المعين الذي يزيل كل حمل مُثقَل، نجد الرسالة تتناص معه صراحة وضمنيا.
فجاءت الآيات القرآنية للتعضيد والتأكيد فاستشهد بقوله تعالى: "بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ" (الدخان:80) ليؤكد على أمانة الكلمة وأداء الرسالة، وفي الموضع ذاته جاء التناص الشعري:
ولا تكتب بخطك غير شيء ... يسرك في القيامة أن تراه.
وتكرر التناص القرآني في ختام الرسالة ليؤكد على اليقين ويبث الأمل في نفوس الثائرين ضد الظلم والاستبداد، " وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا" (الإسراء: 51). "نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ" (الصف:13) وأردف بتناص شعري من خلال تضمين عجز هذا البيت:
فإِن يَكُ صَدرُ هَذا اليَومِ وَلّى ... فإِنَّ غَداً لِناظِرِهِ قَريبُ
ولا يتوقف التناص القرآني في رسالة سلطان على التناص الصريح، بل يتجاوزه إلى التناص الضمني، أو ما يسمى بالنصية الواصفة، وهي العلاقة التي تربط نصا بآخر دون التلفظ به، وهو ما نستنبطه تلقائيا من الرسالة إذ تستدعي قصه يوسف وأبيه يعقوب عليهما السلام، دون إشارة صريحة إلى هذا، ولكن النص يحمل في طياته البث نفسه والأمل ذاته واليقين عينه، وإن كان ثمة تداخل نصي في قوله صبر جميل كما أشرنا آنفا.
ومن أروع القيم الجمالية التي تتضمنها الرسالة هذه المفارقة التصويرية التي تسري إلى المتلقي عند قرأتها، فكان من المتوقع أن تكون الرسالة بث حزن وتنفيس عن مشاعر المعاناة، ولكنها تبدأ بقوله وقد عشت بين نورين وليس نارين لتصدم القارئ من أول وهلة فتخيب توقعاته في قراءة نص يفوح بالشكوى والأنين.
كما تتجلى المفارقة في مضمون الرسالة ودلالات النص، فبدلا من أن يجيء نصا معبرا عن الإحباط أو التمني في أحسن تقدير يأتي نصا مفعما بالنشاط والحيوية، وتصير الدلالة من المفعول (السجين المعتقل المكبل) إلى الفاعل (المعلم الموجه المرشد)، مما جعل الرسالة رسالة تربوية علميا وعمليا في آن، لا تعرف المعوقات ولا المبررات، بل تتجاوز كل العقبات وإن كان على رأسها السجن والحكم بالإعدام، ولا تجعل من المتلقي إلا أن يستصغر نفسه المسوّفة، المتكاسلة، أمام هذه الهمة العالية والإرادة القوية، وتضع في عنق المتلقي أمانة العمل من أجل تحرير الأمة من الاستعمار وأذنابه، ومقاومة الطغيان والظلم بكل أشكاله.
نص الرسالة منشور على موقع نافذة مصر