بقلم : مجدي مغيرة
الجميع صامت ، ساكن ، خائف ، مستسلم
يسيطر الرعبُ على نفوسهم ، ويملأ الخوفُ قلوبَهم.
الكل يذهب إلى عمله
يعود من عمله
يجلس في بيته مع أولاده ...يأكل ....يشرب ...يمارس حياته المعتادة ،
لكن دون إحساس بالسعادة أو باللذة أو بالاطمئنان أو الراحة .
فكل أهل المدينة ينتظرون في استسلام عجيب قدرهم المحتوم دون التفكير في مقاومته أو حتى الهروب منه ،
والجميع ينتظر فقْد عزيزٍ عليه في أي لحظة ، أو أن تُزهَق روحُه هو نفسُه بعد تمزيق جسده وتناثر أشلائه ، وجريان دمه مسفوحا على الأرض ،
ولا فائدة من المقاومة لأنه أقوى من الجميع ،
ولا حتى الهرب لأنه أسرع من الجميع .
ولا يمكن إرضاؤه إلا بوجبة دسمة من لحومهم هم دون لحوم سواهم .
الأول : هل هناك أمل في القضاء عليه ؟
الثاني : لا أظن ......هذا أسد لا يُهزَمُ ولا يموت !!! .
الثالث : كيف لا يُهزم ولا يموت ؟!
أليس حيوانا كباقي الحيوانات ؟
ألا يعتريه الضعف ؟
ألا يصيبه المرض ؟
أليس له أجل محدود يوم يأتيه لن يستطيع أن يهرب منه ؟
الأول : إنه مخلوق فريد ...لا يصيبه ما يصيب غيره من الحيوانات ...
ألا تراه يهاجمنا من سنوات عديدة دون كلل أو ملل ؟
لم نلحظ عليه ضعفا رغم مرور السنين ، لا تزيده الأيام إلا قوة .
الثاني : إن المرض لا يعرف طريقه إليه أبدا .
ربما كان المرضُ يخاف منه ،ولا يجرؤ على الاقتراب من جسده ،
مازال جلده مشدودا كجلد الشباب ،
مازالت حيويته دافقة لا يعتريها فتور .
الأول : إن مخالبه تنشب في الأجساد دون جهد منه أو عناء ، وإذا ما غرز أنيابَه في جسد ضحيته ليأكله ، التهم لحمه كما يلتهم أحدنا قطعة البسكويت ،
إنه ضد المرض وضد الموت ،
ضد التعب وضد الشيخوخة ،
الأول : هو مخلوق أبدي لا فكاك لنا منه ، ولا قدرة لنا عليه ،
وحسبنا كي ننجو منه أن نقدم له بعضا منا كي يترك الباقين .
الثاني : أرى أن نقدم له ضعافنا وفقراءنا ، ونقدم له المعارضين والمندسين الذين تحركهم جهات خارجية لا تريد استقرار بلدنا ولا نمو اقتصادنا ، ولا تقدم علمنا ، بل وتريد تدمير جيشنا الباسل الذي طالما وقف في وجه المؤامرات ، وحقق الانتصارات ، وصنع المعجزات.
الثالث : تتحدثون عنه كأنه إلهٌ أو شبه إله ، ونسيتم أنه مخلوق كباقي المخلوقات ، يهاجم الفريسة لأنها تخافه وتفر منه .
لم لا نجرب أن نجتمع عليه ونقاومه ؟
بالتأكيد سيموت منا البعض ، لكن المؤكد أننا بهجومنا مجتمعين عليه ، ومتحدين جميعا في هدفنا ؛ سنقضي عليه ونتخلص منه إلى الأبد .
الثاني ساخرا :ههههههههههههههههاااااااااي !
نجتمع ونقضي عليه ؟ !
أأنت مجنون ؟ !
هكذا أنت دائما تريد أن توردنا المهالك بطَيْشِك واندفاعك وقلة خبرتك ،
لماذا لا تذهب إليه وحدك ؟ وترينا قوتك وشجاعتك ؟!
كان غيرك أشطر ، لقد حاول قبلك من ظنوا مثل ظنك ، وأصابهم مثل ما يصيبنا منه وأشد .
الثالث : لم لا يقاتله جيشنا الذي يمتص خيراتنا بحجة الاستعداد للدفاع عن شعبنا وحدودنا ، ولم نره خاض أي معارك منذ عشرات السنين رغم كثرة المخاطر التي تحيط بنا ؟
الأول : أنت تعرف جيدا أن جيشنا لم ينتصر في أي معركة خاضها ، والمعركة اليتيمة التي حقق فيها النصر أضاع عمدة المدينة – بنرجسيته - ثمارها .
الثالث : عجيب أن هذا الحيوان يجفل { يهرب} ممن يُظهر له قَرنا أو يرفع له خُرطوما ، أو يُكَشِّرُ له عن ناب ،أما رأيتم قطعان الجاموس كيف اجتمعت عليه ، ولما وجدها جادة في مهاجمته والثأر منه لم يجد بدا من الفرار ؟
هل صرنا أقل منهم ؟ !
إن هذا الحيوان يفعل بنا ما يفعل بسبب ضعفنا وليس بسبب قوته الذاتية ، لو امتلكنا الشجاعة والإقدام لقضينا عليه ، وما سنخسره في سبيل القضاء عليه أقل مما نخسره كل أسبوع بسبب خوفنا منه .
وهكذا كان الحوار يدور دائما بين أبناء المدينة .
يهاجمهم الأسد كل أسبوع مرة ، ويفترس منهم مَنْ يفترس ، وقد استسلموا له ، وغلب عليهم استحالة الانتصار عليه أو الهرب منه ، ورأوا أن يقدموا له بعضا منهم مقابل أن يترك الباقي حيا ،
يُجْرون القرعة بين فريق منهم اختاروه بعناية ، ومن تصيبه القرعة يقدمونه له راضين ، ويعتقدون أن التضحية ببعضهم فيه النجاة لباقيهم .
هو ظلم – كما يعتقدون - أخف من ظلم ، وضرر أقل من ضرر مقابل حياة أو شبه حياة يعيشونها حتى يأتيهم أجلهم المحتوم فيُدفنون في باطن الأرض بدلا من بطن الأسد .
ويتحدث بعضهم إلى بعض في مجالسهم وأماكن عملهم ولهوهم قائلين :
" ومن يدري ما الذي سيحدث لنا لو ثرنا عليه وقتلناه ؟ !
فربما لو قتلناه لجاءنا من هو أشدُّ منه فتكاً وأقوى بطشاً ، وصرنا معه أقل عددا وأكثر عجزاً !!!
فالحكمة تقتضي الرضا بالموجود ، ورسولنا – صلى الله عليه وسلم – يقول : " وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس "! " .
اقتنعوا بهذا المنطق ، ورددوه في مساجدهم ومنابر جمعهم ، وفي مقالات كُتَّابهم ، وروايات أدبائهم ، وقصائد شعرائهم ، وبرامج تلفازهم ، بل وفي المناهج التي يربون عليها أطفالهم وشبابهم في مدارسهم وجامعاتهم ، وصار ذلك دستورا متفقا عليه من الجميع حتى مَن يقومون فيهم بدور المفكرين المبدعين ، أو المعارضين الناقدين ، أو الباحثين المحايدين ، أو الخبراء الموضوعيين .
فإذا ما تمرد بعضهم على ذلك ؛ سخروا منه واتهموه في عقله ، وتمنَّوا له الشفاء العاجل من الأمراض النفسية ، ونصحه المتعالمون منهم بالتعقل والتزام الحكمة حتى لا يصيبهم الأذى جراء طيشه .
مر على ذلك سنوات طويلة حتى غلب على أكثرهم أن تلك هي طبيعة الحياة وسنة الكون ، وأن الاستسلام لذاك الذل وهذا القهر إنما هو عين العقل ونبع الحكمة .
إلى أن أتى يومٌ لم يأت فيه الأسد في موعده ،
ثم مرَّ موعدٌ آخر ، فموعدٌ ثانٍ ، فثالثٌ ،
والجميع يتعجب ...لِمَ لمْ يأت الأسد ؟ هل غضب منا ؟ هل لا نستحق شرف افتراسه له ؟
أم وجد لحوما أخرى خيرا من لحوم أجسادنا يفترسها ؟
الثالث : سأذهب إلى الغابة لأرى لِمَ لمْ يأت الأسد إلى قريتنا.
عاد الرجل من الغابة وهو يهتف فرحا :
لقد مات الأسد !!!
مات الأسد !!!
انتهت مشكلتنا إلى الأبد .
من الآن فصاعدا سنعيش في سلام واطمئنان .
نظروا إليه جميعا في استغراب واستنكار ، وقالوا جميعا بصوت واحد : الأسد لا يموت ،لاشك أنك مخطئ أو توهمت ما لا حقيقة له ، أنت دائما تقول ما تتمنى لا ما هو واقع .
الثالث : أقسم لكم لقد مات الأسد .
لقد خرجت روحه من جسده .
خرجت روحه ، ولا عودة لها مرة أخرى إلى ذلك الجسد الذي طالما تغذى على أجسادنا وولغ في دمائنا .
القوم : نحن لا نصدقك .
إذا كان قد مات كما تقول ، فأين جثمانه ؟
الثالث : إذن سأذهب إلى الغابة ؛ وسآتيكم بجثمانه لتروه جثة هامدة لا حراك بها ، ولا قدرة لها .
ذهب الثالث إلى الغابة ، ووضع جثة الأسد الميت على لوح خشبي له عجلات ، ثم ربطها في حبل متين ، و جرَّها متجها نحو مدينته .
نظر الناسُ إليه وهو قادم إليهم من بعيد ، وتعجبوا منه !
كيف يجر الأسد دون مقاومة منه أو هجوم عليه ؟ !!!
وما إن اقترب منهم حتى قال لهم : ها هي جثة الأسد هامدة لا حراك بها .
نظروا باستغراب شديد وقالوا : وما أدراك أنها جثة هامدة ؟
ما أدراك أنه يغط في نوم عميق ، وما إن يصحو من نومه حتى يثور ثورة لن تبقي منا أحدا ولا تذر .
وبينما يتناقشون فيما بينهم ، وقد احتدم الكلام ، وارتفعت الأصوات ، إذ هبت نسمة هواء ؛ فاهتز لها شعر الأسد الميت متمايلا مع الريح ؛ فصاحوا جميعا مذعورين !!!
بينما كان الجميع يحاول الفرار من بطش الأسد ،لم يكن على ألسنتهم غير السب والطعن واللعن لهذا الغبي { الثالث } الذي كاد أن يوردهم المهالك ، حينما ظن بجهله وغشمه وقلة خبرته أن الأسد ميت ،
بل وارتكب ما هو أشد من ذلك جُرْماً ؛ إذ أحضره أمامهم ؛ ليزيد – بغبائه وجهله - من عدد ضحايا المدينة بعد أن كانوا - بحكمتهم وبُعد نظرهم – قد قللوها إلى واحد فقط في كل أسبوع .