وائل قنديل
كاتب صحافي مصري
تتجاوز المسألة في غزّة الحسابات العسكرية، واعتبارات موازين القوّة، وفائض القدرة هنا، وغيابها، بالقياس الرياضي، هناك، فذلك الذي يدور على الأرض ينطق إنّنا بصدد المعجزات التي أخبرتنا عنها كتب الأوائل، تتحقّق وتتحرّك أمامنا، راسمةً واقعًا يقول إنّ لدى الإنسان الفلسطيني ما هو أقوى من كلّ أساطيل القتلة الذين يحاصرونه ويريدون الفتك به.
تقول لنا ملحمة خان يونس إنّ 15 مقاتلًا مؤمنًا بعدالة القضية التي يحارب من أجلها أقوى وأعلى من جيوش القوى الشريرة التي تمتلك ما لا يخطر على بال بشر من أسلحة فتاكة، والحال كذلك لن تكون لأيّ تحليل للموقف ينطلق من عدم جاهزية جيش الاحتلال أو وصوله إلى حالة من الإنهاك وجاهة حقيقية، لكون الأمر لم يعد يتعلّق بقياسات القدرة، بل بحسابات الإرادة، لنكون بمواجهة المعركة بين اليقين والوهم، أو بين الحقيقة والأسطورة.
بعد خمسة أشهر فقط من العدوان الصهيوني على غزّة، كتبتُ إن الشعب الفلسطيني في غزّة، بمعايير التحضّر الإنساني يمكن وضعه على رأس قائمة الشعوب الأكثر رقيًّا في ممارسة الحياة، ومقاومة الفناء.. وبمعايير القيم العسكرية، يمكن وضع فصائل المقاومة الفلسطينية المسلّحة في مقدّمة الجيوش الأكثر تجسيدًا لقيم الجندية الشريفة والعسكرية المُنظّمة.
هذا الشعب الفلسطيني في غزّة الذي فقد ما يقرب من عشرين ألف شهيد في 60 يومًا من العدوان الإسرائيلي الأميركي، المدعوم من كلّ أشرار العالم، والمسكوت عنه من جلّ أشقاء فلسطين، لم يرضخ للغطرسة الصهيونية التي تطالبه بالرحيل عن أرضهن وتقول له كلّ يوم إنّه لا سبيل للبقاء على قيد الحياة سوى النزوح والهجرة إلى المجهول وإعلان براءته من المقاومة التي تخوض معركة باسلة ضدّ أحطّ أنواع العسكرية الاستعمارية الاحتلالية المتوحّشة.
اليوم وفي اليوم الـ660 على "طوفان الأقصى" و56 عامًا على حريق الأقصى، يظهر الشعب الفلسطيني في غزّة صمودًا أشد، على الرغم من احتشاد العدو بنحو مائة ألف من الجنود استعدادًا للهجوم واحتلال ما تبقى من قطاع غزّة، وتظهر مقاومته إبداعًا قتاليًّا يقف أمامه خبراء العسكرية والاستراتيجية مذهولين، وهم يجدون المقاومة تنهض من تحت الرماد كلّما أشعلوا فيها النار فتلقن أعداءها دروسًا في البسالة، على الرغم مما عرفته هذه المقاومة من نزفٍ في القيادات الميدانية العسكرية، والرموز السياسية، باغتيال قافلة الشهداء الكبار إسماعيل هنية ويحيى السنوار وأبو محمد الضيف ومروان عيسى وصالح العاروري وعشرات غيرهم. كم مرّة سمعتُ أو قرأت كلامًا مُتشائمًا بشأن مستقبل هذه المقاومة عقب اغتيال قياداتها؟ وكم مرّة سمعت مجرم الحرب الصهيونين بنيامين نتنياهو، وجنرالات العسكرية الإسرائيلية المُنحطّة، يتكلّمون عن إنجازهم مهمّة تدمير قدرات المقاومة الفلسطينية وانهيارها، خلال العامين الماضيين؟ وكم مرّة سمعتهم يتحدّثون بيقين عن إخضاع "حماس" واستئصال المقاومة من جذورها وإحراق بذورها في الأرض الفلسطينية، ليس بعد "طوفان الأقصى"، بل في كلّ الاعتداءات السابقة على غزّة منذ أوائل القرن الحالي؟
يقف بنيامين نتنياهو اليوم على أبواب غزّة رافعًا شعارين: القضاء على "حماس" وهزيمة المقاومة، واستعادة كلّ أسراه من جنود جيش الإبادة الجماعية، بشهادة الضمير العالمي كلّه، متوهّمًا أنّ حالة العجز العربي المُتواطئ بالصمت ستجعله ينجح في ما فشل فيه هو شخصيًا في حروب سابقة، كما فشل فيه أسلافه المجرمون الأوائل منذ بداية المشروع الصهيوني في فلسطين، الذين يقول عنهم إنه جاء ليصحّح أخطاءهم التاريخية حين لم يبيدوا الشعب الفلسطيني بالقدر الكافي.
يقول لنا تاريخ الصراع إنّ العدوّ كلّما تخيّل أنّه قضى على مقاومةٍ قامت بوجهه مقاومةٌ أشد، وكلّما ظنّ أنه حسم معركة كبيرة باغتته معركة أكبر، وهكذا ستمضي الأمور إلى أن تتحرّر فلسطين، فخلف "حماس" بنسختها الحالية "حماس" أشدّ وأقوى على يد جيلٍ يمتلك الإرادة للثأر للوطن ولذاته شخصيًّا، ووراء "الطوفان" طوفانٌ أعنف، والأهم من ذلك كله أنّ وراء الوعي العالمي البليد بجوهر القضية وعيًا أكبر وأعمق وأوضح تحمله أجيال جديدة في الغربن راحت تبحث عن الرواية الحقيقية والصادقة للصراع بين شعبٍ أصليٍّ يضرب بجذوره في تاريخ أرضه وجغرافيتها، وعصابات لصوص جاءوا من شتات الأرض لاحتلال وطن ليس لهم.
يقول نتنياهو في أحدث تجليات شعوره بالرعب إنّ على إسرائيل العمل لكسب تأييد جيل الشباب في العالم، من دون أن يتنبّه هذا المعتوه إلى أنّ الطوفان كنس كلّ ما علق بوعي العالم وذاكرته من سرديات ملوّثة بالكذب، جعلته يتحرّر من سطوة الابتزاز باسم "معاداة السامية"، تلك الكذبة التي دهستها جنازير الدبابات التي تطحن عظام أطفال غزّة، ثم لفظتها أفواه الهاتفين بالحرّية لفلسطين في كلّ شوارع العالم.
نحن بصدد جيل جديد امتلك حرية الوعي ووعى الحرية، يردّد بكلّ لغات الدنيا: إذا تنكّرت الخرائط لفلسطين، اجعلها في قلبك، إلى أن تستعيد الجغرافيا صوابها، ويتحرّر التاريخ من سجن المزوّرين، والسياسة من قبضة القوادين.