بقلم: محمد ثابت
         
تذكرتُ مقولة بلقيس ملكة سبأ في الرد على سؤال محدد: 

"..أهكذا عرشك..قالت كأنه هو"
كانت ملكة سبأ أذكى من عرب لم يفهموا لحظة اندلاع الثورة التونسية على إنها لحظة "كانه هو" لا "إنها الثورة"، وما تلتها من ثورات عربية، بمعنى إن المرأة العاقلة لما سافرت للقاء سليمان عليه السلام، ووجدت عرشها الذي من المفترض إنه ما يزال في اليمن، خلفها على بعد مئات الكيلومترات، وليس من المعقول أن ينتقل قبلها ليتم "بسطه" ..وتجده امامها، كان السؤال، الذي لم يحدد القرآن الكريم سائله.."قيل أهكذا عرشك؟!"، الآية 42 من سورة النمل، ولعل احد كبار رجال سيدنا سليمان كان هو السائل، والسؤال يدل على إلمام سائله السياسي ووعيه .. أهكذا عرشك؟.. أمثل هذا يكون عرشك الذي تعرفينه، وكانت بلقيس على مستوى الحدث والذكاء والفطنة و"الحركية السياسية" بل الدهاء لما قالت:                                                                 

"كأنه هو"! 

                                                                                                                                                   
ولسان الحال ينطق قبلها قائلاً:  
إنه عرشي الذي أعرفه.. ولكن ليس من المعقول أن يسبقني إلى هنا .. وقد تركته في بلادي .. فلكأنه إذن "هو"!  
(1)        

دُعيتُ، منذ أيام قليلة،  إلى ندوة ضافية عقدت في الغربة تحت إطار مؤسسة تسعى لأن تكون رائدة في إطار المناقشة السياسية.. ريادتها في فعل الخير والإغاثة الإنسانية، وكانت المحاور تدور حول كيفية نهوض الثورة المصرية من كبوتها الحالية مقارنة بالثورات العالمية لا العربية، وما آليات تطوير الحراك في الشارع؟ ثم كيفية الحفاظ على مؤسسات الدولة خلال هذه الفترة العصيبة؟ ودور الموقف الدولي في ذلك.. 

كان الحاضرون من مختلف الاتجاهات السياسية، ولم يكن الأمر مقصوراً على "أصحاب القضية" بوجه خاص من المصريين، ولكن هالني إن الصورة ما تزال غير واضحة عند البعض، ومع كون الطرح أكاديمياً ..إلا إن توهماً شديداً في الأفكار التي قامت الندوة عليها جعل الأمر ملتبساً في الأذهان من وجهة نظري..إن ما حدث في 25 من يناير في مصر لم يكن ثورة، بالنظر إلى الفترة من 25 يناير حتى 11 من فبراير 2011م فقط، بل كان حراكاً محدوداً، أو قل انتفاضة سمح الجيش بها لإنه لم يكن يريد التوريث.. ولا جمال مبارك، لا لإنه فاسد بل لإنه مدني، وبعد الإطاحة بمبارك الأصل، أو الأب..استمرىء، من أسموا أنفسهم عن غير فهم من آسف، الموقف، ورغم كشوف العذرية التي تمت في وقت مبكر جداً من توهم الثورة، أو كأنه هو.. لكن في سياق غير سياق بلقيس تماماً.."كأنه هو" تساوي التوهم الشديد ..دون التثبت من واقع أو حتى إدراك، بقيتْ مصر كما هي ..كما بقيتْ تونس ..ومن بعد اليمن ..وقيل ثورات .. نفس الأنظمة القديمة ترتع هنا وهناك ..بنفس "دواليب الإدارة" المُغرقة في مستنقع التبعية للفاشية والأنظمة الملوثة، فيما نتغنى بالثورة .. والمسار الإصلاحي بعد الثورة



    كله "كأنه هو" بالمعنى المغلوط .. وهم يتمدد داخل النفوس .. وأحلام تتمدد .. لم تكن الثورة بمفهومها الذي حاول الإخوان تنفيذه في مصر.. ولم يكونوا مؤهلين لا للحكم .. ولا لمجرد الوزارة قبل شهر واحد من إعلانهم ترشيح المهندس خيرت الشاطر ثم الرئيس محمد مرسي، وكانوا يعرفون إن سيطرة على مفاصل الدولة أمر مرهق لن يستطيعوا فعله، ومع ذلك جرت الأمور على النحو المعروف!                                                            

(2)

كأنه هو:   
إننا نجد ما نتخيل إنه تطبيق ثم نروح نبحث عن النظرية، ..بمعنى إننا نحرث البحر بأدوات تناسب ارض غيرنا، أي تاريخ للثورات وحفاظ على المؤسسات؟            
مصر واليمن وتونس كما سوريا والعراق وفلسطين وجميع دول العروبة تنحدر انحداراً تامة من فوق سُلم الإنسانية لا الحضارة .. والأمر استمر لسنوات بل لعقود وقرون طويلة .. والأصل قبل التفكير في مناقشات تخص الحضارة والثورة الآن أن نفكر في منظومة الوعي البالغة الانحدار في مجتمعاتنا ..إن أجيالاً صارتْ مع الأيام تمثل آباء وأجداداً تعتبر الحياة عبارة عن مائدة طعام ومكان نوم ..ولا شىء بخلاف "الحاجات البيولوجية الضرورية المعروفة".. وشئنا أم أبينا فإنهم ليمثلون حجماً هائلاً في بلادنا العربية .. إن لم يكونوا الكتلة الحرجة في بلدان الثورات                    

لماذا لا ننتبه إلى كون معركتنا الأساسية معركة وعي، شعوب تم تجهيلها.. وتفرغيها إلا قليلاً؟
صرنا بالفعل بين فكيّ رحى ..قراءة متعجلة للواقع، وتوازانات متسرعة ثم مواجهة لم تكن على بال


 (3)

لدينا دراسات نظرية رائقة حول الإسلام  واشكاليات الواقع ..  
لكن ليس لدينا تراكم واقعي ، ولا حتى الدرجات الأولى منه . .   
 وتجربة الإخوان في مصر مؤلمة لم يكن يحبها لهم أي مخلص وطني في الأمة بل العالم، وما زلنا لم نتعلم .. ولم نتلمس الطريق الصحيح، راجع ما تسوقه لنا الصحف والمواقع الإلكترونية ليل نهار.. وتبرزه من أوجه الفساد والإنحلال في مصر، على سبيل المثال، ونحن نضيع أغلب الوقت في الانتقاد المُر لبلد ننتمي غليه، ومن المفترض ألا نتمنى السقوط له ..ليُمكننا العودة إلىأحضانه.  

  إن أمر الثورة أو ثورة "كأنه هو" في مصر لتحتاج إلى إعادة قراءة متأنية لمفرداتها التي قادتها إلى كارثة مريعة نتيجة لعدم قراءة المقدمات جيداً، والارتكان إلى مفاهيم ديمقراطية ليست متأصلة لدى الشعب.. والوقوع في فخ العسكر .. والنظر إلى التدخل الغربي بعين الحسبان كمتعاطي الوهم يطلب النجاة به
(4)
    ما من شك إننا بحاجة إلى حل ثالث يساوي تفكير خارج دائرة حل سياسي يساوي استسلاماً للعسكر في مصر ..أو الزج بمصر، على سبيل المثال، في أتون حرب أهلية للخروج بها من المأزق..أي تهلك لنحافظ عليها، وإن إعمال تفكير في هذا الأمر بل "المنظومة" فرض عين ..ثم إنه لمطلوب من بعد إعادة بناء للوعي ..وترتيب لمنظومة الثورة .. وأساسيات الحكم .. وبناء دراسات نفسية كافية بناء على جهد مؤسسي حقيقي ..لعل الله يكتب السلامة لمصر.. ولدول عربية تعيش حلم "كانه هو" على إنه ثورات حقيقية!

 

المقالات المنشورة تحمل وجهة نظر أصحابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع