هشام المنصور

دائماً ما يشتغل المحللون السياسيون على الأحداث الجارية وتستند تحليلاتهم على لقاءات وتصريحات زعماء الدول، وعلى أفعالهم الظاهرة ومواقفهم المعلنة، والجميع يعلم أن هناك مساحة ما للعلاقات السرية ولكنهم يختلفون في حجم تلك المساحة ونسبتها من المعلن، وما كانوا يعلمون أنهم ينظرون إلى قمة جبل الثلج ولقد جاءت تسريبات مدير مكتب السيسي المتعددة لتجعل الجميع يعيد النظر في حجم المساحة الخفية.

وقبل الخوض في تلك السياسة الخفية علينا أن نسجل ملاحظة هامة عن وجود بعض الرؤساء أو قادة الدول أو الوزراء الذين لا يعرفون عما يجري في بلادهم شيئاً، فقد أوضحت التسريبات أن الدولة المصرية كانت تدار بالكامل من مكتب وزير الدفاع، وكان الرئيس المعين والذي شغل منصب قضائي رفيع المستوى قبل تعيينه لم يكن إلا مجرد ديكور لم يملك من أمره شيئاً وللحق فإن رجل الشارع العادي كان يعلم تلك المعلومة ويمزح بها، إلا أنه لم يكن يتوقع أن يكون الديكور بهذا الحد، وأن يشمل معه الوزراء والثمن الطبيعي لمن يرضى بهذا الدور هو التكريم وذكره بكتب التاريخ وكف ألسنة الإعلام عنه بل ومدحه من خلال الأزرع الإعلامية، وحتى نكون منصفين ووفقاً لتصريح السيسي في أحد لقاءاته بأن مبارك كان يفكر ألف مرة قبل أن يقرر أداء صلاة العيد مع القوات المسلحة فضلاً أن يتدخل في شئونهم ويعزل وزير دفاعهم، أو يطلع على مصادر أموالهم، ولو فعل الرئيس مرسي ذلك واختار أن يكون جزءً من ديكور الدولة لمجدته الصحافة ولأغدقت عليه الدول الأموال والنعم ولكنه ظن أن الرئيس له سلطات فأراد أن يمارسها فكان الدرس قاسياً ليعلم الشعب حجمه الحقيقي عند من يدير تلك المساحة المظلمة من السياسة.

ففي السياسة الخفية نجد زيارات مريبة وسرية رغم أنها تأتي من أشخاص وجودهم وزياراتهم طبيعية لا تثير هذا الشك، فلماذا تحاط زيارة وزير خارجية دولة صديقة بالسرية؟ هل لأنه سيقابل الرئيس الفعلي للبلاد ولن يتعامل مع الديكور؟ ربما ولكن المنطقة المظلمة كبيرة حقاً وتحتاج إلى كم جديد من التسريبات والبيانات، فقد نفهم التعاملات السرية مع فصيل في ليبيا ودعمه بالسلاح من أجل وأد الثورة نظراً لأن المعلن كان غير ذلك، وقد نستوعب أن تدخل أموال بصورة سرية لحسابات المخابرات المصرية أو لحسابات حركة (تمرد) المخابراتية لاسقاط الرئيس والانقلاب عليه ولا يتم الإعلان عن ذلك لأن تلك جريمة خيانة عظمى وتخابر، ولكن لا نفهم أن يرسل رئيس دولة الإمارات وزير خارجيته بطائرة تهبط في مطار عسكري (ألماظة) ليتقابل سرياً مع وزير الدفاع.

ومن أخطر ما ورد في تسريبات مكتب السيسي التي تم بثها في قناة (مكملين) على مدار يومين نقطتين أولهما ذلك الاجتماع السري السنوي الذي يعقد بدولة الإمارات ويمثل فيه شخصيات بحجم (شيمون بيريز) رئيس الكيان الصهيوني آنذاك وشخصيات أخرى بحجم وزراء خارجية دول وحضره وفقاً للتسريب مصطفى حجازي مستشار الرئيس المعين بعد الانقلاب، والتساؤل عن هدف هذا الاجتماع السنوي؟ وهل ترعاه الإمارات؟ أم أنها مجرد ممول ومستضيف ويدار من جهات أخرى؟ وما هي الموضوعات التي تطرح وهل تؤثر توصياتها في سياسات الدول؟ أظن أنه لا ينبغي أن يمر هذا الأمر مرور الكرام، ولعلنا قريباً نعرف تلك الحقائق عند نجاح الثورة المصرية ومحاكمة قادة الانقلاب الذين يمتلكون صناديق سوداء تجعل بعض الدول في الخارج حريصة على عدم سقوطهم خوفاً من فضح المستور.

أما النقطة الهامة الثانية في التسريب هي موضوع الشركات الاستشارية التي تمثل غطاءً لدعم سياسي معلن، وما أقصده دور توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق والذي ذكرت صحيفة "الغارديان" البريطانية في 2 يوليو/تموز 2014 أنه وافق على تقديم استشارات للسيسي تتعلق بالإصلاحات الاقتصادية، ولكن التسريبات أظهرت أن دوره قديم وأنه بالتعاون مع شركة أخرى تقاضوا دفعة 10 مليون دولار لتقديم برنامج اقتصادي لحملة قائد الانقلاب الانتخابية، وبالطبع لم تكن استشارات أو برامج حقيقية فليس من المعقول أن عربيات الخضار لحل مشكلة البطالة، واللمبة الموفرة لحل مشكلة الكهرباء من أفكار تلك الدراسة، ولم ينتظر الانقلابيون دراسة أو برنامج أو حتى استشارة اقتصادية مقابل الملايين التي تدفع من جيوب دول نفطية، ولكن المطلوب هو الدعم السياسي من شخصية بحجم بلير، وقد يكفي أن تسمع تصريحاً أدلى به بلير في أكتوبر 2014 لقناة (التحرير) المصرية على هامش مؤتمر إعادة إعمار غزة حيث قال (عندما حضرت المؤتمر عرفت أن الرئيس السيسي هو رئيس قوي وأعاد إلى مصر الاستقرار وأنه يقود مصر نحو الطريق السليم) وهذا بالضبط ما يحتاجه الانقلاب من الاستشارات الاقتصادية، فضلاً عن التحرك لدعم سياساته والترويج له لدى قادة الغرب.

إن التسريبات التي أذيعت حتى الأن أزالت الكثير من الغموض حول خيوط المؤامرة التي حيكت ضد مصر وشعبها، وإنها لتدعو إلى استكمال الثورة وعدم الرضى بأنصاف الحلول التي تبقي الفسدة في مقاعدهم، حتى يتم تطهير مصر ممن نهب أموالها وثرواتها، ولم تصبح القضية الأن في ثورة سرقت أو انقلاب دموي على رئيس منتخب حدث بل تعدى ذلك إلى قضايا تهم الأمن القومي للدولة المصرية وخيانة عظمى مكتملة الأركان، وقضاء وإعلام يتم إدارته من مكتب وزير الدفاع ضمن منظومة السياسة الخفية.