هشام منصور   

من الممكن أن يحاكم المسئول في الدول المتقدمة لكذبة واحدة يلقيها على شعبه، أما في الحالة المصرية فالشعب لا وزن له في نظر قائد الانقلاب فهو يدرك أن الشعب لم يكن له يد في اعتلائه هرم السلطة في مصر بعدما قاطع انتخابات الرئاسة ثم جاءت النتائج الرسمية لتكذب ما رأته العيون ولترسم صورة مغايرة ومعبرة عن حشود هادرة، لذا فقد استهان الانقلاب بالشعب فخروجه مثل صمته مادامت الأوراق والسجلات الرسمية والتشريع والقضاء والقوة بأيديهم, فالكذب عليه مباح إن لم يرقى لدرجة الواجب والمستحب.

أما أن يخرج ذلك للعالم في شواهد يتابعها فتلك استهانة كبيرة بالذاكرة أو كما يقول الشباب المصري نوع من (الأفورة) بمعنى إنها أصبحت خارج نطاق المعقول.
وفي حوار السيسي مع جريدة الشرق الأوسط والمنشور في 28 فبراير والممهد لأول زيارة للرياض بعد التسريبات المهينة للخليج تستطيع أن تلحظ كماً كبيراً من اللامعقول وحالة الشيزوفرينيا التي يعيشها البعض.
فقد بدأ المحاور مؤكداً على عدم السماح له بتسجيل الحوار وعدم إدخال الهاتف أو الأيباد المسجل عليه الأسئلة مما جعل الحوار (على الناشف)، والاكتفاء بكتابته ولكنه أردف قائلاً إلى أن ذلك يشير إلى الانفتاح الإعلامي الذي ينتهجه السيسي!! ولا ندري إذا لم يكن هناك  انفتاح فهل كانت الكتابة ستمنع أيضاً، مع إن المحاور ذكر أنه أخبره بتفصيلات ولكنها ليست للنشر فهل هي أمن قومي؟ وإذا كانت كذلك فلماذا يطلع عليها الصحفي؟ دعنا من هذه الأمور الشكلية ولندخل في صلب الحوار.
وفي معرض الإجابة عن سؤال عما تحقق في الفترة الماضية قال نصاً (قمنا أولا بالحفاظ على دولة المؤسسات) ودلل على ذلك بعدم التدخل في القضاء كما في قضية صحفي الجزيرة حيث قال  (...ولأننا نحترم القضاء أولا وسلطته كذلك، فكان لا بد أن ننتظر حتى يقول القضاء كلمته وبعد ذلك أستخدم صلاحياتي لإنهاء الموضوع، لأن صلاحياتي تبدأ بعد انتهاء المحاكمة وليس خلالها)، ونسي أنه تدخل بالفعل وتم إخلاء سبيل الصحفي الاسترالي في حين أن القضية مازالت أمام القضاء، وأن عباس مدير مكتبه كما جاء بالتسريبات الشهيرة يعطي الأوامر للنائب العام ويوصي بكلام قاضي للإفراج عن قتلة بضع وثلاثون مصرياً حرقاً بسيارة الترحيلات، وأنه تم تحويل 2729 مدنياً للقضاء العسكري خلال الأربعة أشهر الأخيرة، فهل يكفي ذلك للرد على دولة المؤسسات وعدم التدخل في القضاء أم نضيف أحكام الإعدام التي تتم بصورة عبثية، والقوانين والتشريعات التي تقيد كل الحريات؟.
أما الحديث عن المؤتمر الإقتصادي والذي روج له في الحوار بجملة (المناخ أصبح أفضل من ذي قبل وكذلك الاستقرار أفضل) فالرد عليه من خلال تصريح لوزير الصحة أن مصر استعدت للمؤتمر الاقتصادي بمضاعفة الطاقة الاستيعابية لمستشفى شرم الشيخ وأقسام الطوارئ بها فهل يكفي هذا التصريح ليدلل على حالة الأمن والأمان التي يحتاجها المستثمر؟ أم أنه يحتاج لرؤية العسكر يغلقون الميادين ويمنعون السيارات والمارة من العبور خشية تعبيرهم عن رفضهم لانقلاب الدم؟ أم أن حالات التعذيب حتى الموت بأقسام الشرطة والتي كان أخر ضحاياها محام شاب قد تدخل الطمأنينة إلى قلب المستثمر فيشعر بوجود حالة من السلم الاجتماعي والأمان؟ أم أن المستثمر قد يقتنع بالاستثمار بمصر أوبريت (مصر قريبة) علماً بأنه لم يخاطب كل المستثمرين بل خاطب دولاً بعينها، وما يظنه الكاتب أن الانقلابيين يعلمون جيداً أن المؤتمر الاقتصادي المزعوم لن يجدي نفعاً ولن يقدم جديداً ولن يصلح اقتصادا متدهورا ولن يفيد البلاد أو العباد ولن يكون مجالاً جيداً للسرقة والنهب لأن المأمول منه عدة حبات مقابل كيلو الرز الذي تم التهامه في السنة الأولى من الانقلاب، على الرغم من كل ذلك إلا إنهم يروجون له وكأنه المنقذ من المهالك لأنهم يبحثون عن أي انجاز أو نجاح يخرجهم من مسلسل الوحل والفشل الذي يحيونه على كل الأصعدة.
أما عن العلاقة مع دول الخليج فقد ذكرها الحوار في أربع نقاط نصاً (أمن مصر القومي يمر عبر دول الخليج، وأمن الخليج خط أحمر، و«مسافة السكة» التي أما العنصر الرابع فهو إنشاء قوة عربية مشتركة) وكل هذه العناصر الأربعة يلخصها الكاتب في عبارة واحدة وهي (الرز مقابل الحماية) أي أن استمرار تدفق الأموال مقابل المساعدة العسكرية لدول الخليج، وأظن أن دول الخليج باستثناء الإمارات قد علمت صعوبة تلك الصفقة خاصة بعدما فشل العسكر في حماية جنوده في سيناء ورعاياه في ليبيا، وعندما قام بطلعات جوية استعراضية أصاب مدنيين وفقاً لتقرير منظمة العفو الدولية، هذا الانقلاب أصبح عبئاً على داعميه سواء بالمال أو بالدعم السياسي وهم في مأزق الأن كيف يتخلصون من هذا العبء ولعل التخبط في بيان مجلس التعاون الذي هاجم الانقلاب لتجاوزه في حق قطر في أول اليوم ثم سحبه في أخر اليوم يدل على هذا المأزق.
أما عن الإساءة لقطر وتركيا فقد قال السيسي (قدم لي تصريحا رسميا واحدا صدر منا فيه إساءة ضد أي من الدولتين، قطر وتركيا. بكل تأكيد لن تجد تصريحا سلبيا واحدا) والكاتب يحيله إلى برامج الاعلاميين الذين يعملون وفقاً لتليفونات عباس الشهيرة، والذين لا يستطيعون أن يقولوا إلا ما يملى عليهم وهذا ما دعى السيسي إلى الاعتذار لأمير قطر عن إسائتهم، وإلى اتهام السيسي عند لقاءه برؤساء التحرير في 23 أغسطس 2014 لقطر وتركيا بدعم وسائل إعلامية تثير الفوضى ودعا رؤساء التحرير إلى حرب إعلامية للتصدي لذلك، أي أنه من يدير حملة الإساءة الإعلامية لكلا الدولتين، وتصريح مندوب مصر لدى الجامعة العربية ليس ببعيد، والذي اتهم فيه الدوحة بـدعم الإرهاب،  أما عن تصريحات وزير الخارجية المصري فحدث ولا حرج.
إن زعيم الانقلاب في حواره لم يذكر شيئاً إلا  وجاء بالصورة المعكوسة له ربما لظنه أن ذاكرة العالم ذاكرة سمكية أو لأنه يعلم أن العالم الخارجي لا يعبأ بمثل هذه الإدعاءات والحوارات، وله حسابات أخرى تتمثل في ما يمكن تقديمه من قبل النظام الانقلابي من تنازلات وانبطاحات ثمناً لسكوته على المجازر وجرائم الحرب، وهذه التنازلات لا تتوقف فكل يوم جديد.