عزت النمر :

لا شك أن ثورة 25 يناير تعرضت لمؤامرات ضخمة من أطراف اقليمية وقوى دولية لا تريد للمآل المصري أن يتشكل بعيداً عن مصالحها وأولوياتها .

مفردات الواقع المصري كانت الكنز الاستراتيجي الذي مكَّن هذه الأطراف وتلك القوى من قهر الشعب المصري وثورته المجيدة . نخب عميلة وساذجة , إعلام كذوب وقضاء فاجر, مؤسسات حكومية تدين للإستبداد وتتقوت على الفساد, فضلاً عن هشاشة الثقافة الشعبية وجينات الجبن وإيثار السلامة.

صور متعددة من الدعم اللوجستي والاقتصادي والسياسي بل والعسكري أنشأت ودعَّمت الإنقلاب المشئوم , وأموال كثيرة دُفعت بُغية مساندته رغبة في استقراره واستمراره . والغريب ان الإنقلاب ونظامه لم يستطع أن يستثمر كل هذا الدعم , فلا هو حقق تنمية إقتصادية ولا بنى حاضنة شعبية ولا حافظ على صورة "عنتره" التي رسمها اعلام الكذب لمرشح الضرورة سيسي العصر كما أرادوه . النتيجة بعد كل هذا الدعم وتلك المساندة أن نظام السيسي ينتقل من فشل الى فشل ويهوي بسرعة هائلة نحو السقوط .

أزمة النظام المصري انتقلت بدورها الى الرعاة الرسميين. أصحاب المصالح الإقليميين والدوليين يعيشون في أزمة حقيقية جراء هاجس السقوط المفاجئ والتي إن حدث لن يكون هناك فرصة استيعاب ذلك أو التعامل معه , لأن السقوط المتوقع هذه المرة لن يكون لرأس النظام السيسي وعصابته الحاكمة , لكن الإنهيار سيشمل بنية النظام  وأركانه , وسيكون مآل أفراده الى أعواد المشانق وغياهب السجون .

أمريكا والغرب لا يعنيهم مصير هؤلاء , ولكن يعنيهم من سيخلفهم وبيد من ستكون مصالحهم وأولوياتهم , وما يخشاه الغرب ولا يتمناه هو أن إنهيار النظام الحالي سيجعلهم وجهاً لوجه مع الكابوس المخيف ألا وهو التعامل المباشر مع الاسلاميين ومرسي – الذين سيعودون بوجه شرس - على أرض مكشوفة بلا خونة أو عملاء.

ملئ الفراغ هو النمط السياسي المعتمد حالياً لدى أمريكا والغرب , بمعنى أن تستهلك الوقت في التعامل مع اللحظة الراهنة والدولة القائمة حتى يتبين لهم شخصية عميله تستوثق منها وتأمن لها وتدفع بها في اللحظة المناسبة ومن خلال دعم دولي وإقليمي حتى تستقيم لها الأمور , وتكون بذلك استبدلت عميل جديد بدلاً من عميل قديم , وطبعاً من خلال إستبداد يحفظ المصالح , ولا عزاء في الديمقراطية لأنها لن تحفظ لهم مصلحة ولن تحقق لهم غاية.

هذا بالضبط ما فعلته أمريكا والغرب مع ثورة يناير التي أتت لمصر بأول رئيس مدني منتخب في انتخابات ديمقراطية حرة وشفافة , استطاعت أمريكا والغرب استهلاك الوقت حتى برز شخص السيسي كعميل يمكن التلاعب به واستخدامه لملئ فراغ السلطة بعد إنقلاب عسكري إستخدمت فيه كل سوءات الواقع المصري.

الأزمة التي تعانيها أمريكا والغرب هي تلك الصدمة العنيفة التي منوا بها في شخصية السيسي التافهة وكم الفضائح والسوءات التي أحاطت به ونظامه بحيث لم يعد يجدي معها الا جراحة عاجله تستبق إنهيار نظامه قبل إيجاد وتمكين تلك الشخصية التي تملأ الفراغ.

رموز كثيرة وشخصيات وكيانات إستوعبت التوجه الامريكي وتسعى من خلال إتصالات ومبادرات أن تُسَوق أنفسها لدى أمريكا على أنها ذلك البديل المقبول والمؤهل لملئ الفراغ .

أمريكا مطمئنة تماماً لولاء أصدقائها من هذه الرموز وتلك الكيانات كما أنها لا تخشاهم على مصالح اسرائيل الآنية ولا المستقبلية . لكن المعضلة الكبرى والشرط الأصعب الذي يبحثون عنه , هو من يستطيع ومن يملك ضمانة استيعاب التيار الاسلامي والاخوان المسلمين في عملية سياسية بعيداً عن أي ديمقراطية تعود بالجميع لما قبل ثورة يناير وتضمن عدم عودتهم للحكم في المستقبل القريب ولا البعيد .

الفرقاء وأصحاب المصالح من الغرب وأمريكا واسرائيل يعلمون أن هؤلاء الأصدقاء ــ رموز وكيانات تحت الطلب ــ ليس لهم ثقل ولا وزن لافتقادهم الحاضنة الشعبية التي يملكها  الاخوان المسلمون , لذلك فإن العسكر والاستبداد هما الخيار الأوحد والاستثمار الآمن والمجرب في الحالة المصرية.. ولكن كيف ومن؟!.
غباء العسكر في إدارته للمرحلة الانتقالية الأولي وفشلهم الذريع تحت قيادة السيسي لسنتين من عمر الإنقلاب  جعل من إعادة تسويق العسكر في الحكم أمراً بالغ التعقيد , خاصة مع تركة الثأر التي خلفها نظام السيسي بين العسكر وبين قطاع لا يُستهان به من الشعب المصري .

يبدو أن أمريكا لم يبق لها إلا مسارين لإعتماد أحدهما أو اعتمادهما معاً :

المسار الأول هو البحث عن شخصية محورية في المحيط العربي ليس لها سابقة في الملف المصري , وتلميعها وتقديمها للعب دور الوساطة بين النظام المصري الحالي وبين الإخوان المسلمين , تعيد للاخوان حرية معتقليهم وترد لهم مؤسساتهم وتوفر لهم هامش مسموح به من الحركة السياسية . وفي نفس الوقت يُطلب من الإخوان الإقرار بنظام السيسي والكف عن مناكفته فضلاً عن مواجهته وتهديده.

المسار الثاني وهو إختيار قيادة من داخل العسكر بعيدة عن عصابة المجلس العسكري الحاكم تقوم بإنقلاب على الإنقلاب ولا مانع من محاسبة بعض صعاليق النظام الحالي وهروب البعض بحيث يتم غسل سمعة هذه القيادة من الإنقلاب الأول ويفتح الباب للإخوان لقبول الوجوه الجديدة طالما لم تشارك في الدم , ولا بأس من أن يبدأوا حكمهم الجديد بشعارات تبشر بالحرية وفعاليات لهدم السجون وتحرير السجناء.

هذا ما يراه الغرب وتريده أمريكا .. لكن يبقي السؤال الأهم : ما هو قرار الإخوان حينئذ ؟

هل يمكن أن يقبلوا بأحد هذين المسارين ؟

أم سيختاروا ـــ وهم تحت ضغط الألم والمحنة ـــ مسار آخر يقلب الطاولة على الجميع ويكملوا ثورة الحرية والكرامة حتى آخر المشوار ؟؟!.