الأندلس .. من الولاية إلى الإمارة
فتحت الأندلس عام (92 - 95هـ) على عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (86 - 96هـ) فأصبحت ولاية تابعة للخلافة الأموية في بلاد الشام، ولما سقطت الخلافة الأموية بالمشرق عام 132هـ حاول والي الأندلس يوسف الفهري (129 - 138هـ) أن يكون أميراً مستقلاً لا يتبع أحداً بعد سقوط خلافة الأمويين.
إلا أن وصول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الملقب بالداخل، غير الأمور وجعل الأندلس إمارة أموية، بدأ فيها عهد جديد يسمى عصر الإمارة الأندلسية (138 - 316ه)ـ، وهي إمارة وراثية حكمتها الأسرة الأموية (أسرة عبد الرحمن الداخل) وتولاها الابن عن والده، أو الأخ عن أخيه، أو الحفيد عن جده كما هو معروف.
الدول المعاصرة للإمارة الأندلسية
وعاصرت الإمارة الأندلسية دول إسلامية ذات نظام خلافي، وهي: الدولة العباسية (132 - 656هـ)، ودولة الأدارسة (172 - 296ه)،ـ ودول الخوارج وهي دولة بني مدرار في سجلماسة (140 - 296هـ)، والدولة الرستمية في تاهرت (144 - 296ه)، والدولة الفاطمية في المغرب (296 - 362هـ).
فالدولة العباسية يحكمها خليفة من سلالة العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الخليفة الشرعي الذي يعترف بخلافته عموم المسلمين، قياساً إلى وحدة الخلافة الإسلامية من الناحية النظرية، وبقيت الإمارة الأموية في الأندلس تقدر وحدة الخلافة الإسلامية، إلى أن قامت الدولة الفاطمية من منطقة المغرب عام 296هـ.
وعلى الرغم من أن دول الخوارج ودولة الأدارسة تسمي حاكمها الإمام أولاً، وعلى الرغم من أن بعض أئمة الخوارج من سجلماسة أعلنوا ولاءهم للخلافة العباسية، ثانياً [1]، فإن الإمارة الأموية في الأندلس لم تخرج من التقليد حتى قامت الخلافة الفاطمية في المغرب، التي أسقطت دول الخوارج ودولة الأدارسة ودولة الأغالبة (184 - 296هـ) فأصبحت هذه الخلافة وجهاً لوجه مع الإمارة الأموية في الأندلس لا يفصلهما إلا المضيق.
إعلان الخلافة الأندلسية
ودخلت هاتان الدولتان في صراعات مريرة، من أشهر مظاهرها إعلان الخلافة الأندلسية عام 316هـ من قبل الأمير عبد الرحمن الناصر (300 - 350هـ) الذي لقب من هذا العام ولقب الذين جاء من بعده وإلى عام 422هـ بلقب الخليفة الأندلسي، وبذلك كسرت قاعدة وحدة الخلافة الإسلامية، وأصبحت للخلافة ثلاثة نظم من العالم الإسلامي، وهي: الخلافة العباسية والخلافة الفاطمية والخلافة الأندلسية.
وبرر الفقهاء تعدد الخلفاء إذا كانت هناك مصلحة تقتضي ذلك، واعترفوا بشرعية خليفتين للمسلمين في آن واحد بشرط أن يكون بينهما مسافة كبيرة ومسافة شاسعة لمنع الاصطدام والفتن بين المسلمين [2].
الإمارة الأموية في الأندلس والخلافة العباسية
من الناحية التاريخية الواقعية كانت الإمارة الأموية في الأندلس، إمارة وراثية مستقلة سياسياً عن خلافة المشرق العباسية، ولها علاقات ودية مع دول الخوارج، إلا أنه من الناحية الروحية فإن الإمارة الأموية في الأندلس لم تعترف بالخلافة العباسية، إلا فترة وجيزة، تراوحت بين عدة أشهر، وعدة سنوات من حكم عبد الرحمن الداخل (138 - 172هـ) ثم قطعت الخطبة للخليفة العباسي [3].
ويلاحظ أن أمراء بني أمية الذين حكموا الأندلس قبل الناصر، وإن كانوا قد قطعوا الدعاء لبني العباس، إلا أنهم لم يلقبوا أنفسهم بلقب خليفة واكتفوا بلقب الأمير أو بني الخلائف أو الإمام [4].
وهناك روايات تذكر أن عبد الرحمن الداخل لم يخطب للعباسيين طيلة حياته، ولم يخطب الأمراء من بعده كذلك لبني العباس [5]. ويبدو لنا أن الأمير عبد الرحمن الداخل لم يخطب لبني العباس، ولكن في الوقت نفسه، نراه هو والأمراء الذين تولوا الأندلس من بعده لم يلقبوا بلقب خليفة المسلمين، احتراماً للخليفة الشرعي حامي الحرمين الشريفين، وهو الخليفة العباسي [6].
أسباب إعلان الخلافة الأموية في الأندلس
هذا هو الأصل النظري للخلافة الإسلامية، غير أن مجريات الأمور وتغيرات الظروف حتمت كسر هذا الأصل، فقامت الخلافة الأندلسية عام 316هـ وذلك للأسباب الآتية:
1 - قيام الدولة الفاطمية في شمال أفريقية عام 296هـ، وهي ذات أطماع مكشوفة تجاه الأندلس.
2 - ضعف الخلافة العباسية في المشرق أيام الخليفة المقتدر (295 - 320هـ) واستبداد القواد الأتراك بها وعبثهم في شؤون الخلافة.
3 - الاستجابة لرغبة الأندلسيين في أن يكون أميرهم خليفة للمسلمين، وبخاصة بعد قضائه على أهم حركات التمرد، فأصبح الأمير بحاجة إلى رفع مكانة الأمير السياسية والدينية [7].
هكذا لقب عبد الرحمن الناصر نفسه، " الناصر لدين الله أمير المؤمنين " وأصدر منشوراً يتضمن ذلك [8]، وهكذا تحولت الأندلس من إمارة إلى خلافة، واستمر لقب خليفة في ذرية عبد الرحمن الناصر من بعده حتى سقوط الدولة الأموية في الأندلس عام 422هـ[9].
طبيعة نظام الخلافة والخلفاء في الأندلس
ونظام الخلافة في الأندلس يقوم على أساس التوريث أيضاً، ويستند إلى السياسة أولاً ثم إلى الدين ثانياً، عكس الخلافة الراشدة التي قامت على الشورى والانتخاب.
وفي الوقت الذي نجد فيه الخليفة العباسي (يحكم بتفويض من الله) كما قال الخليفة المنصور: "إنما أنا سلطان الله في أرضه"، وإن الخليفة الفاطمي يرى نفسه إماماً معصوماً من الخطأ، ولا يسأل عما يفعل، نرى الخليفة الأندلسي يقدم نفسه للناس بصفة، إنسان عادي يخطئ ويصيب، والناس أحرار في نقده، كما فعل قاضي قرطبة المنذر بن سعيد البلوطي [10]، الذي أخذ ينتقد الخليفة الناصر على الأموال الطائلة التي صرفها في بناء مدينة الزهراء، وهو جالس في مسجد الزهراء، وكان رد فعل الخليفة الأندلسي أنه أقسم أن لا يصلي وراء هذا القاضي، ورفض اقتراح عزله عن الخطبة والقضاء [11].
من هذا نرى أن نشأة الخلافة الأندلسية تخالف نشأة الخلافة في الممالك الإسلامية الأخرى، فهي عبارة عن عقد بين الحاكم والمحكوم، في حين أن الخلافة العباسية تقوم على أساس الميراث عن العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم، والخلافة الفاطمية تقوم على الحق الطبيعي الموروث الذي يأتي عن طريق فاطمة الزهراء [12].
نظام الخلافة في عهد الدولة العامرية حتى السقوط
استمرت الخلافة الأموية في الأندلس تجمع بين السلطتين الزمنية والروحية، إلى أن جاء الحاجب المنصور ابن أبي عامر وأولاده من بعده، فانتزعوا منها السلطة الزمنية اعتباراً من عام 366هـ، فاستبدوا بالأمر وأصبح حال الخلافة الأندلسية كحال الخلافة العباسية أيام سيطرة البويهيين (334 - 447هـ) وسيطرة السلاجقة (447 - 590هـ)، وكحال الخلافة الفاطمية بعد سيطرة الوزراء عليها بعد وفاة الخليفة الفاطمي المستنصر عام 478هـ.
ومعروف تاريخياً أن فترة الحجابة انتهت عام 399هـ، وبدأت فتنة الخلافة الأندلسية وتسمى الفتنة المبيرة (399 - 422ه)ـ، التي كانت مليئة بالفتن والاضطرابات، وتصارعت فيها عناصر البربر والصقالبة وأهل قرطبة، وحكمها عدة خلفاء ضعفاء يتجاوز عددهم 14 خليفة حكم بعضهم أكثر من مرة [13].
وفي سنة 422هـ سقطت الدولة الأموية بعد عزل آخر خلفائها هشام الثالث المعتد بالله، وإجلاء من تبقى من المروانية عن قرطبة، وأعلن الوزير أبو الحزم بن جهور إلغاء الخلافة وأصبح الأمر شورى فظهرت حكومة الجماعة في قرطبة [14]، ثم قامت دويلات الطوائف في سائر أنحاء الأندلس.
نظام الخلافة في عهد ملوك الطوائف
لا ينكر أن معظم ملوك الطوائف كانوا في قرارة أنفسهم يتطلعون إلى الخلافة، فقد كان كل واحد منهم يود أن يصل إليها [15]، وأن تتجمع له الصفات المعنوية التي كان يتمتع بها الخلفاء الأمويون، إلا أنه لم يجرأ أحدهم على ذلك، ولو أنهم تلقبوا بألقاب الخلفاء.
فنرى مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية ينصب (أبا عبد الله بن عبد الله بن الوليد ويعرف بالمعيطي وهو من بني أمية) [16]، شبه خليفة، وسماه بأمير المؤمنين المستنصر بالله [17]. كما قام الحاجب إسماعيل بن عباد بإرسال الرسل إلى جميع أنحاء الأندلس يطلب الدخول في طاعة الخليفة المزعوم (هشام المؤيد) الذي اختلفت الروايات في مصيره.
وقد استجاب لذلك الكثير من ملوك الطوائف أمثال: مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية، وعبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، وأبي الحزم جهور صاحب قرطبة، وبني ذي النون ملوك طليطلة [18].
ولعل هذه الظاهرة التي سمتها بعض المراجع بـ (وهم الخلافة) يقصد بها وجود خليفة يتمتع ظاهرياً بنوع من القوة والنفوذ، وذلك إرضاء لعامة أهل الأندلس الذين ما زالوا يذكرون الأوقات الطيبة عن الخلافة الأموية، هذا إلى جانب المظاهر الروحانية والدينية التي تحيط بالخلافة.
فقد كان للخليفة وحده حق الإمامة والزعامة الدينية، لذلك لم يكن من السهل على أكثر أمراء الطوائف أن يحتلوا مكان الخليفة، لأنهم كانوا مجرد حكام صغار لا ينحدرون من سلالات معروفة تتناسب مع وقار الخلافة وهيبتها [19].
وقد وجهت انتقادات لاذعة لأمراء الطوائف الذين اتخذوا ألقاب الخلفاء استكمالاً لمظاهر السلطان والعظمة [20]، وقد أشار إلى ذلك الشاعر أبو علي الحسن بن رشيق، بقوله [21]:
مِمَّا يُزَهِّدُنِي فِـي أَرْضِ أندلسٍ *** سَمَـــــــاعُ معتصمٍ فِيْهَا وَمُعْتَضِدِ
أَلْقَابُ مملكةٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا *** كَالهِرِّ يَحكِي انتِفَاخاً صَورْة الأسدِ
نظام الخلافة في عصر المرابطين والموحدين
انتهى عصر الطوائف، بدخول الأندلس ضمن أملاك دولة المرابطين، فأصبحت الأندلس ولاية مرابطية يحكمها أمراء مرابطيون تابعون لحكام المرابطين في مراكش، إلا أنه يلاحظ أن الدولة المرابطية أعلنت ولاءها المبكر للخلافة العباسية، وبالذات اعتباراً من عام 450هـ، وأرسل حكام المرابطين السفارات إلى بغداد لهذا الغرض وأشهرها سفارة العالم أبي بكر عبد الله بن محمد المعافري وولده القاضي أبي بكر (485 - 493هـ).
كما اتخذ المرابطون اللون الأسود شعاراً لهم، ومن المعروف أن هذا اللون هو شعار العباسيين، وضربوا على نقودهم لقب الخليفة العباسي، ولقب حاكم المرابطين اسمه باسم أمير المسلمين [22].
ثم خضعت الأندلس لدولة الموحدين، وحكمها ولاة تابعون لحكام الموحدين في المغرب، ورأى الموحدون أنهم أحق الناس بالخلافة، ولأنهم دون غيرهم الموحدون المؤمنون، فأقاموا لأنفسهم خلافة شرعية خاصة، ولقبوا أنفسهم بأمراء المؤمنين، وعززوا ذلك بانتمائهم إلى بيت رسول الله عن طريق الأدارسة، واتخذوا اللون الأخضر شعاراً لهم [23].
وكان من أهداف الخلفاء الموحدين النزوح نحو المشرق وفرض خلافتهم على مشرق العالم الإسلامي، ومعنى ذلك أن الموحدين لا يعترفون بالخلافة العباسية [24].
ولما ثار محمد بن هود على الموحدين عام 625هـ وأقام إمارة مستقلة له، لقب نفسه بأمير المسلمين مقلداً بذلك أمراء المرابطين، فقطع الخطبة للموحدين وخطب للخليفة العباسي، ونشر الرايات السود [25].
وفي عام 631هـ وصل إلى الأندلس أبو علي حسن بن علي الكردي المقب بالكمال قادماً من بغداد رسولاً من قبل الخليفة العباسي المستنصر بالله (623 - 640هـ)، حاملاً كتاب تقليد ابن هود ولاية الأندلس، ولقبه المتوكل أمير المسلمين، والراية السوداء، والخلع والهدايا [26]، كذلك لما ثار أبو جميل زيان على الموحدين عام 626هـ، دعى للخليفة العباسي المستنصر بالله أيضاً [27].
نظام الخلافة في عصر مملكة غرناطة
ومملكة غرناطة التي حكمتها الأسرة النصرية بالوراثة، فقد أعلن أمراء هذه الأسرة ولاءهم للخلافة العباسية حيناً ولملوك بلاد عدوة المغرب حيناً آخر، ولقب أمراؤهم بلقب السلطان وأمير المسلمين، مع العلم أن ألقاباً أخرى غلبت على بعضهم كالمخلوع والزُغل والزغيبي. وعرف بعض سلاطينهم بالقوة، ووقع البعض الآخر تحت سيطرة الوزراء [28].