بقلم: د. فتحي أبو الورد
ولد أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في شوال سنة أربع وتسعين ومائة 194 للهجرة في بخارى، وألهم حفظ الحديث وهو ابن عشر سنين كما يقول عن نفسه، وحين بلغ من عمره ست عشرة سنة صحب أمه وأخاه للحج بمكة، وبعد أن أنهوا المناسك عاد أخوه وأمه وبقى هو بمكة في طلب الحديث.
طلب الحديث في كبريات منارات العلم في عصره على أيدى أكابر العلماء والمحدثين في مكة، والمدينة، وبغداد، والبصرة، والكوفة، ومصر، والشام، وبخارى، وبلخ، ومرو.
وعن كتابه المعروف بصحيح البخاري قال: كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب (الجامع الصحيح)، وصنفته في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى، وما أدخلت فيه إلا ما صح، وتركت من الصحاح كي لا يطول الكتاب، وأخرجته من زهاء ستمائة ألف حديث. وما وضعت فيه حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك، وصليت ركعتين.
وللأسف هناك بعض من لا يعرف سنن الغسل أو الأغسال المستحبة أو الواجبة في الفقه الإسلامي يتطاول على رجل في طهارة البخاري ويسخر من صحيحه.
ومما يستأنس به في هذا الصدد ما ذكره أبو زيد المروزي الفقيه قال: كنت نائما بين الركن والمقام، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال لي: يا أبا زيد، إلى متى تدرس كتاب الشافعي، ولا تدرس كتابي؟ فقلت: يا رسول الله وما كتابك؟ قال: (جامع) محمد بن إسماعيل.
نحن تتحدث عن رجل عطرت سيرته مجالس الصالحين، وزين صحيحه مكتبات الدنيا وحلق العلم. ولا يذكر الحديث الصحيح إلا والبخاري في مقدمة المأمومين والمقصودين، ولذلك كان من المسلمات لدى أهل العلم الشرعي إذا نقل أحدهم حديثا عن صحيح البخاري يكفى أن يقول: رواه البخاري، غير محتاج إلى حكم عليه من أئمة الحديث وعلماء الجرح والتعديل.
كتابه الجامع الصحيح هو أعلى الكتب الستة سندا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- وذلك لأن البخاري كان أسن الجماعة، (وهم البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة) وأقدمهم لقيا للكبار، أخذ عن جماعة يروي الأئمة الخمسة عن رجل عنهم.
سلمت له الأمة ممثلة في علمائها بإمارة الحديث وإمامته. قال الحاكم: البخاري إمام أهل الحديث. وقال ابن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأحفظ له من محمد بن إسماعيل.
وفى توثيقه للحديث وتثبته قال: كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه وكنيته ونسبته وحمله الحديث. فإن لم يكن، سألته أن يخرج إليَ أصله ونسخته.
واعترافا بفضله، ومعرفة بحقه، وإنزالا لقدره، كان يحيى بن جعفر يقول: لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل من عمري لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموته ذهاب العلم. وجاء الإمام مسلم بن الحجاج إلى البخاري فقال: دعني أقبل رجليك يا سيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله.
وقال أبو عيسى الترمذي: لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل. وقال أحمد بن حنبل: ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل.
وفى حفظه وإحاطته بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمرو بن العلاء: حديث لا يعرفه البخاري ليس بحديث.
مثله في الزهد والورع لا يعبأ بمن ينالون من عرضه، إنه ينظر إلى الآخرة التي نساها من تطاولوا عليه، وعند الله تجتمع الخصوم.
قال بكر بن منير: سمعت أبا عبد الله البخاري يقول: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا. وعقب على هذا الإمام الذهبي فقال: صدق - رحمه الله - ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعفه، فإنه أكثر ما يقول: منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر، ونحو هذا. وقلَ أن يقول: فلان كذاب، أو كان يضع الحديث. حتى إنه قال: إذا قلت: فلان في حديثه نظر، فهو متهم واه. وهذا معنى قوله: لا يحاسبني الله أني اغتبت أحدا، وهذا هو والله غاية الورع.
اشتد به المرض في آخر أيامه، فدعا بدعوات ثم اضطجع فقضى نحبه في قرية تسمى خرتنك من قرى سمرقند سنة ست وخمسين ومائتين للهجرة 256هـ.
قال بعض من حضروا جنازته: لما دفناه فاح من تراب قبره رائحة غالية أطيب من المسك، فدام ذلك أياما.
إن رجلا في قدر وقيمة البخاري لا يبغضه إلا جاهل أو حاقد أو صاحب هوى وغرض، وإن الهوى شر إله عبد في الأرض.
اللهم إني شهدت بما علمت عن عبدك محمد بن إسماعيل مما جاءنا في أوثق مصادر التراجم والأعلام، وبرئت ممن أساء إليه ونال منه، فاجعل شهادتي قربة منى إليك، وأمارة يعرفني بها يوم العرض عليك، واجعلني ممن يشفع له – إن كان من أهل الشفاعة - بين يديك.