وليد شوشة :
لما اشتد الخلاف بين الملك فؤاد ومصطفي النحاس زعيم حزب الوفد؛ حل الملك البرلمان وأغلبيته من الوفديين عام 1929. فذهب محمد نجيب سراً إلي بيت النحاس ، وعرض عليه تدخل الجيش ومساندة الحزب لاقتحام البرلمان بالقوة ، فرد النحاس :" أنا أُفضل أن يكون الجيش بعيداً عن السياسة ، وأن تكون الأمة هي المصدر الوحيد للسلطات " .
هكذا يجب أن يكون " لا جيش في السياسة ، ولا سياسة في الجيش " ولما كتب الدكتور محمد محسوب عن رحيل السيسي ، كانت الحقيقة : لم يعد رحيل رأس المؤسسة العسكرية ، وقائد الانقلاب ، فقط هو المُطالب بالرحيل ، ناهيك عن المُسائلة والمُحاسبة . بل المطلوب بالإجماع واتفاق كل الأحرار ؛ رحيل العسكر وانسحابهم من الحياة السياسية والمدنية ، والعودة إلى ثكناتهم ، والحفاظ على دورهم التاريخي والمقدس على حدود الوطن لمُجابهة أي تهديد خارجي والعمل علي غرس العقيدة العسكرية الشريفة وإعادة تأهيل الجيش وتدريبه وتسليحه لينافس جيوش الدول القوية من حيث العدد والعتاد والجاهزية والوطنية ؛ في عالم لم يعد يعرف إلا لغة القوة ، ولا يهاب إلا القوي ؛ فلا عيش للضعيف والمتسول حمايته وعتاده من غيره أو من عدوه.
ولقد وثق الشعب بجيشه ثقة لم تهتز يوماً حتي في حالك الظروف ، وتحت وقع آلام النكسة ارتفع الناس على أوجاعهم ، ووقفوا صفاً واحداً وراء جيشهم لتقوية ظهره ، ولنهضته من عثرته . ودفع الشعب كل غال وثمين وظل خلف جيشه حتى تحقق النصر في أكتوبر 1973 بتضحيات الشعب والجيش معاً. كل ذلك نتيجة لدور الجيش المحوري في بناء الدولة والدفاع عنها ، والمساهمة في التنمية والتحديث ، والتحول الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بعد ثورة 1952، كما أنه الملاذ والملجأ وقت الأزمات والتحديات.
وظلت الثقة والأمل يتعاظما في الجيش ويكبرا، حتى انحاز الجيش للشعب إبان ثورة يناير 2011 وأجبر مبارك على التنحي ، فرفع الثوار أصواتهم بالهتاف " الجيش والشعب ايد واحدة " وقتها سارع الجميع بمد أيديهم للجيش من أجل الخروج بحل لأزمات الوطن ، والتعاون على ادارة المرحلة ، وتسليم السلطة للمدنيين فبدأ العسكر في التردد ، واطالة مدة ادارة المرحلة ، والمماطلة في تسليم السلطة للمدنيين ، وظهرت كأنها "مؤامرة على الثورة هدفها ابعاد عناصر النظام التي ثبت فشلها من أجل الحفاظ على النظام ككل " كما يرى حازم قنديل . أو كما يقول يزيد الصايغ " لكي يجهض حصول تغيير ثوري أعمق " أو لـ" يحمى نفسه " أو كما يرى آخرون بأنه كان بدافع الحرص على مصالحهم ، وامتيازاتهم الكبيرة ، وتزايد قوة مصالحهم التجارية الخاصة . وكان الجيش قد اعتبر نفسه الوحيد المؤهل لإدارة وحكم البلاد ، وحارس المصلحة الوطنية وحامي الاستقرار حتى أن المجلس الحاكم رأى الانتقادات الموجهة إلي أدائه هجوماً على الجيش ، مما جعله يرد علي هذه الانتقادات بعنف أثناء الاحتجاجات في الميادين .
ولم يُحافظ الجيش على ثقة الشعب ورصيده لديه و نقاوة صورته، مع تعهده بأنه سيحكم البلاد لفترة مؤقتة ستة شهور على الأكثر، إلي حين تسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة . ورفضت القوى السياسية والشبابية وصاية العسكر على الثورة ، وشكت في جدية تسليم السلطة بشكل ديمقراطي و"يبدو أن هذا التصرف الاستباقي من الجيش لم يكن بسبب من الانتماء الأيديولوجي للرئيس المقبل فحسب ،بل إلى عدم تقبل الجيش فكرة أن يكون الرئيس - الذى هو القائد الأعلى للقوات المسلحة - مدنياً ؛ فمنذ عام 1952 ترسخت "سيكولوجية العسكريين الذين لم يعتادوا تلقي الأوامر من المدنيين" هاني رسلان .
ولقد مثل انتخاب الرئيس مرسي - أول رئيس مدني في تاريخ مصر الحديث - فك الارتباط بين الرئاسة والجيش، وحفاظاً على الجيش ورصيده من الانهيار ، بتراجع دوره في الشوارع ومصادمته للثوار والشعب ، وعودته إلى ثكناته ، حتى وإن توارى خلف المشهد السياسي يرقبه أو يعبث فيه ويهزه . وسعياً من مرسي لتحقيق مدنية الدولة استغل حادثة مقتل 16 جندياً في سيناء فأقال طنطاوي وعنان وعدداً من أعضاء المجلس العسكري ، وانتقص من حصة الجيش في التعينات الإدارية ، مع السير في اصلاحه بتؤدة ، وقد أعلن عن استمرار هذه الثقة في احدى خطاباته " احنا عندنا رجالة زي الدهب في القوات المسلحة " .
ثم كانت القشة التي قصمت ظهر البعير بانحياز الجيش لأحد الأطراف السياسية على حساب الطرف الآخر في مظاهرات 30\6 ثم الانقلاب العسكري في 3/7/2013 على أول تجربة ديمقراطية أشرف الجيش بنفسه عليها ثم اتباع سياسة القمع والتنكيل بالمعارضين، بما ظهر في الحرس الجمهوري ، والمنصة وفض اعتصام رابعة العدوية والنهضة ، مما نتج عنها آلاف القتلى ، والجرحى ، واعتقال ما يزيد عن خمسين ألف ، وانهيار للاقتصاد ، وكتم للأصوات ، وهيمنة المخابرات والأجهزة الأمنية على المشهد بالكامل ؛ حتى اختيار وتعيين أعضاء مجلس النواب كما صرح بذلك حازم عبد العظيم . فالجيش المصري " ما زال يريد أن يُملي إرادته في ما يتعلق بنظام الحكم في الدولة ، إن لم يحكم مباشرة " كما يقول الدكتورعزمي بشارة
يقول الاستاذ هاني رسلان في( العلاقات المدنية العسكرية) : " كانت العلاقات المدنية - العسكرية إحدى العوامل (الداخلية) المؤثرة في عملية انتقال معظم دول جنوب أوروبا أواسط سبعينيات القرن العشرين ، وأمريكا اللاتينية وأجزاء من آسيا في الثمانينيات وأوائل التسعينيات ، من أنظمة حكم سلطوية إلى أنظمة حكم ديمقراطية ، لذا " واجهت الدول الديمقراطية الجديدة تحدياً صعباً يتمثل في الحاجة القصوى إلى اصلاح العلاقات المدنية العسكرية " وتعتبر أدبيات التحول الديمقراطي أن تدخل العسكر في الحياة السياسية معوق لعملية التحول الديمقراطي ، وتقوم هذه العلاقات في الدول الديمقراطية الراسخة على ركيزتين : الأولي ، الفصل بين المؤسسة العسكرية والمؤسسات السياسية ؛ والثانية ، خضوع المؤسسة العسكرية للسلطة المدنية .
وتتفرع من هاتين الركيزتين مبادئ ومحددات ، من أهمها :
• النخبة السياسية المنتخبة هي صاحبة القرار.
• السلطات السياسية المدنية المنتخبة هي التي تُنشئ الإطار القانوني الواضح للمؤسسة العسكرية.
• القوات المسلحة ليست فوق الدستور، بل تخضع له.
• للمؤسسات السياسية حق الإشراف والرقابة على القوات المسلحة؛ مثل مجلس الأمن القومي، والدفاع القومي ، ولجنة الشؤون الدفاعية في البرلمان.
• ولاء المؤسسة العسكرية للدولة وليس الفرد ، ولا المجموعات ، فهي جهاز محايد وغير منحاز لطرف
• القواعد والتنظيمات والقوانين الخاصة بالمؤسسة العسكرية تنطبق حصرياً على أفرادها ، دون المدنيين.
• يحظى العسكريون بالاستقلالية والسلطة في اتخاذ القرارات المتعلقة بالشؤون العسكرية .
• قنوات قانونية لمشاركة العسكريين كمواطنين في السياسة مثل التصويت في الانتخابات أو تسلم المناصب التنفيذية ، بوصفهم أفراداً لا ممثلين أو مؤيدين للمؤسسة العسكرية.
• ميزانية المؤسسة العسكرية وأوجه صرف مواردها المالية تخضع لرقابة السلطة التشريعية وتدقيق أجهزة المحاسبة المالية في الدولة ، مثل باقي مؤسسات الدولة.