د. فتحى أبوالورد
قد يتبادر إلى ذهن قارئى الكريم أننى أعنى بالأرانب الملايين ، كما هو فى عرف الكثيرين الذين يستخدمون الأرانب مجازا ، ولكنى أستخدم لفظ الأرانب على الحقيقة ، وأعنى به لونا جديدا من ألوان الخير ، وهو وقف الأرانب على الأسر الفقيرة بغية إعانتها ، وبذلا لمساعدتها ، هذا ما حدثنى به صديقى العائد من سفرة دعوية بصحبة إحدى المؤسسات الخيرية بقطر، والتى كانت وجهتها إلى جمهورية مالاوى الواقعة فى جنوب شرق أفريقيا ، والتى يمثل فيها المسلمون نحو 30% من تعداد سكانها البالغ 14 مليون نسمة .
ومشروع وقف الأرانب يعنى أن تأخذ كل أسرة عددا من الأرانب الإناث ومعها ذكر ، من أجل التكاثر والتوالد ، ويعتنى بتربيتها أهل البيت بهدف زيادة أعدادها ، ومن بيع نتاجها يستفيدون بالثمن ، ومن لحم بعضها يسدون جوعتهم فى بعض الأيام ، حيث لا يأكلون اللحم إلا قليلا ، وكما أخبرنى صديقى أن أغلب طعام أهل البلاد هو ما يسمى بالـ ( سيما ) ، وهو طعام مكون من الدقيق والماء ، يوضع فى قدر على النار حتى ينضج ، ويكون على هيئة لباب الخبز ، وقد يضيفون إليه بعض المحسنات مثل شرائح البصل وبعض العشب الجبلى .
وما يسهل على أهل الخير من عموم المسلمين المشاركة فى هذا المشروع هو يسر تكلفته ، حيث يستطيع الكثيرون ممن لا يستطيعون أن يساهموا فى المشاريع الخيرية الكبيرة أن يكون لهم سهم فيه ، وإذا علم القارئ الكريم أن مائة ريال قطرى تجعله أحد الواقفين فى هذا المشروع ؛ فإن الأمر يبدو أكثر يسرا ، ويغرى الكثيرين بالاشتراك فيه ، حتى إن الأسرة المسلمة تستطيع أن تشجع أبناءها بالاسثمار فى هذا المجال الخيرى من مصروفهم ، تعويدا لهم على فعل الخير ، وغرسا لقيم التكافل والتضامن والرحمة فى نفوسهم منذ الصغر.
لقد كان نظام الوقف من مفاخر الإسلام وحضارته ، وهونظام إسلامى خالص لم تكن تعرفه العرب من قبل ، والوقف يعنى تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة ، وتوقف المنافع حسب شرط الواقف ، حتى إن الفقهاء قعدوا قاعدة فقهية تقول : وقف الواقف كنص الشارع ، وإن كان فى هذا اللفظ شىء من المبالغة إلا أن الفقهاء راموا بذلك إلى توفير حماية للوقف لضمان بقائه واستمراره ، فلا يجوز تغييره أو انتهاكه ، مالم يكن فى استمرار العمل بشرط الواقف مضرة تنافى أصل مقصود الوقف وهو المنفعة .
وكان من أوائل الواقفين فى الإسلام الفاروق عمر بن الخطاب كما روى البخارى أن عمر أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره – يستشيره - فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس – أجود - عندي منه، فما تأمر به؟ قال: «إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها» قال: فتصدق بها عمر، أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول .
وتعددت جوانب الوقف فى الإسلام واتسعت دائرته لتشمل أغراضا دينية واجتماعية وصحية وعلمية مثل : الوقف على المساجد والمشافى وصيانتها ووظائفها ، والفقراء ، وحفرالآبار ، ودور الرعايا الاجتماعية ، وتزويج المحتاجين ، وافتداء الأسرى ، والمدارس والمكتبات العامة ، وطلبة العلم ، ...إلخ.
وحكى ابن خلدون على ما كان فى بغداد ، والكوفة والبصرة ، والقاهرة ، وقرطبة ، والقيروان ، وفاس من مراكز علمية وخاصة زمن صلاح الدين الأيوبى الذى أوقف أراضى زراعية وبيوتا على المدارس .
وبالجملة فقد كان للوقف الإسلامى فضل كبير وتأثير بالغ فى بناء الحضارة الإسلامية وإرساء قواعدها على مبادىء التكافل والتضامن والتعاون والتآخى.