د. فتحى أبوالورد
صفحة فى تاريخ الأمة المسلمة سطرت بالدماء ، وحقبة من عمرها زيد لها فى البلاء ، تلكم الصفحة التى ظهر فيها الحجاج على مسرح الأحداث ، وتلكم الحقبة التى شهدت مولد الحجاج ومهلكه .
كم دعت ألسنة بانقضاء أجله ، وكم ارتفعت أيدى إلى السماء تدعو بانتهاء عمره ، وطى صفحته ، وإسدال الستار على هذا المشهد المأساوى من مسرح الحياة السياسية والاجتماعية.
كان الحسن البصري لا يجلس مجلسا إلا ذكر فيه الحجاج ، ودعا عليه .
وكثيرا ما يقول المسلم فى تلقائية وعفوية ، عندما يأتيه نبأ وفاة مسلم ممن ظلم أو أفسد : أفضى لما قدم ، وهو الآن بين يدى ربه ، ولكن أن يبكى فرحا ، أو يسجد شكرا ، كبار العلماء بموت الحجاج ، فذاك الذى ينبئك عن عظم البلاء ، وشدة الضيق ، وحلكة الليل ، وسواد الحياة التى عاشها أهل ذاك الزمان .
قال حماد بن أبي سليمان:لما أخبرت إبراهيم النخعي بموت الحجاج بكى من الفرح.
ولما بشر الحسن البصرى بموت الحجاج سجد شكرا لله تعالى، وكان مختفيا فظهر .
وروى عبد الرزاق: أن طاووس لما أخبر بموت الحجاج قال: "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين" . الأنعام: 45.
كان همه إرضاء الخليفة ، ولم يأبه لرضا الخالق ، وأسرف فى الظلم والقتل ، ونقض عرى الإسلام ، وحارب أولياء الله ، وانتهك الحرمات .
وشهد فى شأنه الإمام الأوزاعي فقال : سمعت القاسم بن مخيمرة يقول: كان الحجاج ينقض عرى الإسلام . وقال عاصم بن أبى النجود: لم يبق لله حرمة إلا ارتكبها الحجاج .
قاوم كثيرون من الأحرار الحجاج ، فاستقوى بجنده ، واستعلى بسيفه ، واستكبر فى الأرض بغير الحق ، فلم يقدروا على غلبته ؛ فلما كان ذلك فوض الجميع الأمر لصاحب الأمر ، واختفوا عن عينه ، ولاذوا بالهرب ، وسلطوا عليه سيف القدر ، وأطلقوا عليه سهام السحر .
قال أبو عمرو بن العلاء: كنا هرابا من الحجاج بصنعاء، فسمعت منشدا، ينشد:
ربما تكره النفوس من الأمـ ***ـر ، له فرجة كحل العقال
فاستظرفت قوله: "فرجة "، فإني لكذلك إذ سمعت قائلا يقول: مات الحجاج، فما أدري لأي الأمرين كنت أشد فرحا: بموت الحجاج أو بذلك البيت؟
وفى حربه ضد خصومه ، قتل العلماء فكان أبرزهم سعيد بن جبير ، وسجن العلماء وكان أبرزهم مجاهد ، وامتلأت السجون فى عهده بالرجال والنساء ، حتى قال الهيثم بن عدي: مات الحجاج، وفي سجنه ثمانون ألفا، منهم ثلاثون ألف امرأة.وقال السري بن يحيى : مر الحجاج - على السجون - في يوم جمعة، فسمع استغاثة، فقال: ما هذا؟ قيل: أهل السجون يقولون: قتلنا الحر، فقال: قولوا لهم: "اخسئوا فيها ولا تكلمون" المؤمنون: 108 .
وقد رأى بعض العلماء أن ظلمه ، وإسرافه فى سفك الدماء ، قد ألحقه بالملعونين ،
روى ذلك الثوري عن منصور فقال: سألت إبراهيم النخعى عن الحجاج ، فقال: أليس الله يقول :" ألا لعنة الله على الظالمين" . هود: 18 .
لم يهتم بإصلاح ، ولم يعبأ بنهضة ، بل تناقص العمران فى عهده ، حتى شهد عليه الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز فقال: ما كان يصلح لدنيا ولا لآخرة ، ولي العراق وهو أوفر ما يكون من العمارة، فأخس به حتى صيره أربعين ألف ألف، ولقد أدي إلي في عامي هذا ثمانون ألف ألف وزيادة.
مات الحجاج فقال بعض من حضره :
ألا يا أيها الجسد المسجى *** لقد قرت بمصرعك العيون
وكنت قرين شيطان رجيم *** فلما مت سلمك القرين
ومن عجب أن تمتدحه إحدى جواريه وهى تنعيه ببعض مظالمه ، فتقول : ألا إن مطعم الطعام، وميتم الأيتام، ومرمل النساء، ومفلق الهام، وسيد أهل الشام قد مات، ثم أنشأت تقول:
اليوم يرحمنا من كان يبغضنا *** واليوم يأمننا من كان يخشانا
مات الحجاج ، بعد مرض كان يقول فيه : ما لي ولك يا ابن جبير؟
مات الحجاج وترك رسالة لكل من يقتفى أثره عنوانها : مات الحجاج ، وسيموت كل حجاج .