بقلم : السعيد الخميسي :
يا قومنا : الإخلاص قبل الاصطفاف .
* كثرت الدعوات والمناشدات والتصريحات بل والتوسلات بضرورة الاصطفاف الثوري من جديد لاستعادة روح يناير وتحقيق أهداف ثورة يناير العظيمة من كرامة وعيش وحرية وعدالة اجتماعية وغيرها . وهذه دعوات حق فى شكلها وصورتها , لكن فى مضمونها وجوهرها يشوبها بعض الباطل , بل وإن شئت فقل يشوبها بعض الغموض وعدم الوضوح فى الرؤيا والتصور والهدف . إن آية واحدة فى القران الكريم لجديرة بحل هذا اللغز وفك هذا الالتباس بين الناس . ألم تقرا قوله تعالى " إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ." والقتال قد يكون بالسيف , أو بالكلمة , أو بمواجهة الهوى والانحراف , أو بالثبات على الحق , أو بوحدة الهدف والغاية. وذكر الحق قوله " فى سبيله " قبيل لفظ " صفا ", فى إشارة جميلة بليغة تلخص ارتباك المشهد السياسي الذي نحن فيه اليوم . فلايمكن أن يكون الاصطفاف قبل الإخلاص , ولايمكن أن يكون الاصطفاف قبل توحيد الهدف والغاية من الطريق . ولايمكن أن يكون الاصطفاف قبل التجرد لله من المطامع الحزبية , والأهداف الشخصية , والمكاسب المادية والسياسية .
* كيف يمكن تحقيق الاصطفاف الذي يدعون إليه والصف أعوج , فيه المتقدم بغير حق والمتأخر بغير سبب..؟ كيف يمكن تحقيق الاصطفاف والنية ليست خالصة لله ولا متجردة لوجه الله ثم لمصلحة الوطن العليا..؟ كيف يمكن تحقيق الاصطفاف والذين فى قلوبهم مرض مازالوا يثرثرون بغير فهم أو وعى ويلبسون الحق بالبطل ويكتمون الحق وهم يعلمون..؟ كيف يمكن تحقيق الاصطفاف وهناك أقوام قدموا مكاسبهم الشخصية على مصلحة الوطن ..؟ كيف يمكن تحقيق الاصطفاف وبعض النفوس ملتوية التواء لايستقيم معه البناء ..؟ كيف يمكن تحقيق الاصطفاف ووابل الاتهامات وسيل المكايدات وعواصف المزايدات لاتهدأ لا بليل ولا بنهار..؟ كيف يمكن تحقيق الاصطفاف وحب الظهور وتضخم الذات وحب الزعامات هو المحرك والوقود الذى يشغل ماكينات تلك النفوس الهابطة ..؟ كيف يمكن تحقيق الاصطفاف وقد أصبحت الثورة عند البعض شعارا للارتزاق المادي والظهور الإعلامي ..؟ كيف يمكن تحقيق الاصطفاف وقد أصبحت الثورة عند البعض سوقا تجاريا نصب فيه البعض أوتاد خيمتهم للبيع والشراء بأى ثمن ولو على حساب القيم والمبادئ والدين والوطن..؟ أفلا تعقلون..؟
* كيف يمكن تحقيق الاصطفاف وكتاب الله يقول فى حق الاصطفاف " كأنهم بنيان مرصوص "..؟ فهل نحن اليوم بنيان مرصوص ..؟ أم بنيان آيل للسقوط..؟ هل نحن اليوم بنيان قوى متين ليس فيه ثغرات ولاشقوق ولا تصدعات...؟ هل نحن اليوم بنيان قوى متين قادر على مواجهة العواصف والزوابع التى تنطلق من حين لآخر..؟ هل نحن اليوم بنيان مرصوص قائم على أعمدة خراسانية إيمانية متينة لايصدأ حديدها ولا تتهاوى أحجارها من أول عاصفة..؟ هل نحن اليوم بنيان متراص ليس فيه متقدم ولا متأخر عن البنيان..؟ هل نحن اليوم حققنا قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " فهل نحن اليوم يشد بعضنا بعضا ..؟ هل نحن اليوم يؤازر ويساند بعضنا بعضا فى الحق..؟ إن الواقع المرير يقول أن هناك اتهامات وإهانات وتخوينات متبادلة بين الجميع ...؟ أين نحن من كمال ومتانة وقوة البنيان المرصوص..؟
* إن القول بأن الاصطفاف الثوري يمكن تحقيقه ونحن على مانحن عليه من الشقاق وسوء الأخلاق والتنازع والفرقة والاختلاف , لقول مشكوك فى صحته وفى أصله وسلامته . فالله عز وجل طيب لايقبل إلا طيبا . والطيب هنا هو التجرد لله لتحقيق أهداف الثورة من أجل تحرير هذا الشعب من التعذيب والتشريد والاضطهاد السياسي على مر العصور لكى ينعم الشعب بثرواته وبخيره . إن الطيب هنا الذى يقبله الله عز وجل هو التخلص من تضخم الذات البشرية وحب الظهور والزعامة ولو على حساب رقاب الجميع . إن الطيب هنا الذي يقبله الله عز وجل أن تكون النية خالصة له فى رحلة البحث الشاقة عن الحرية وكرامة الإنسان . إن الطيب هنا الذي يقبله الله عز وجل هو أن ندرك أن ماكان لله دام واتصل , وما كان لغيره انقطع وانفصل . إن الطيب الذي يقبله الله عز وجل هو تقديم مصلحة الدين والوطن والشعب على مصلحة الأحزاب والهيئات والجماعات . إن الطيب الذى يقبله الله هنا أن نفهم جميعا أن عدونا واحد , لذا يجب أن نكون صفا واحدا متراصا مستقيما فى مواجهته. إن الطيب الذى يقبله الله ألا نحيد عن طريق الحق لنصرة دين الحق وتحرير الشعوب من رق العبودية الذى أذل العباد وأخر البلاد .
* إن ماحدث لنا من خطف ثورة يناير ووقوعها فريسة بين مخالب وأنياب الثورة المضادة والدولة العتيقة لهو عقاب لنا جميعا من الله عز وجل . فلو كان الاصطفاف قائما من أول يوم على أسس متينة , وقواعد سليمة , ونيات خالصة , وأفهام واعية , ومدارك واسعة , وخطط واضحة , ووسائل فاعلة , ماكان هذا حالنا اليوم من مطاردة الشرفاء وسجن الأحرار واعتقال الثوار . لعل الله أراد أن يميز الخبيث من الطيب , والصالح من الطالح , وصاحب المبدأ من صاحب المصلحة . ويوم أن يدرك الجميع أن الإخلاص لابد أن يسبق الاصطفاف , وأن مصلحة الوطن العليا والتي تكمن فى تحرير هذا الشعب من الديكتاتورية والاستبداد والرق والعبودية , وتحقيق الحرية والديمقراطية وحفظ كرامة المواطن هى الأولى والأوجب, يومها بل وساعتها ولحظتها سينزل نصر الله على قوم يستحقون هذا النصر حتى لايفرطوا فيه بعد ذلك . إن نصر الله غال الثمن لايقدر بكنوز الدنيا كلها , ولن ينزل نصر الله أبدا على قوم لايفرقون بين الغث والثمين وبين الحق والباطل , بل سينزل على قوم باعوا الدنيا واشتروا الآخرة . وقدموا المبادئ وأخروا المصالح . فهل من مجيب...؟