د. محمود مسعود
في جملة رائعة يبين الله تعالى لنبيه موسى عليه السلام: أن تعجيل الخطى لن يقدم ولن يأخر، خاصة في قوم لم يحصّلوا التربية عمليا؛ لأن التربية العملية للأمم لا يكفي فيها درس واحد حتى لو كان هذا الدرس هو انشقاق البحر كالطود العظيم، ومن ثم عبر بنو إسرائيل إلى النجاة وهلك عدوهم وجنوده أمامهم. وهذه الجملة هي قوله تعالى:(ما أعجلك عن قومك يا موسى؟) وما أعجلنا نحن الثوار في مصر عن قومنا؟!!
في هذه الجملة بيان كيف أنا قوم مستعجلون، فقد ظننا أننا على وشك قطف الثمار التي زرعها الأجداد منذ ظهور ابن عبد الوهاب والسنوسي والمهدي، بل قلنا اننا سنقطف ثمار الأفغاني وعبده وإقبال والبنا وابن باديس والمودودي وأحمد يسن وغيرهم كثير، لكننا نسينا أننا نعبر فقط من مرحلة إلى مرحلة! فمن طريق متعرج وحوارى ضيقة إلى شوارع الثورة وميادين النور، وكان لابد أن نعلم أن شوارع الثورة سيسيل بها دماء كثير، ولكي تستمر ميادين النور كان لابد أن تحرق شموعا شاهدة، وأن استمرار الثورة وروح الجهاد تسبق الجهاد ذاته، وأن الجهاد الحقيقي لم يبدأ بعد، لكنه على بعد خطوات.
إذا فتشنا عن مشروعنا الحلم الكبير (خلافة راشدة على منهاج النبوة) فهل يخفى هذا الحلم عن اصلاحي مسلم مهما يكن انتمائه الدعوى والفكري! في الحقيقة أنه لا يخفي لكننا في مصر أردنا ثورة تقربنا من الحلم ولا تنجزه. وكان هذا بلا شك تفكير قاطرة الحركة الإسلامية؛ أقصد الإخوان المسلمين، ومن ثم ارتضينا في مصر مرافقة الليبراليين واليساريين وغيرهم في دفع الظالم من عرشه، ومشاركة كل من يكره الظلم الاجتماعي الحراك الثوري، إلا أن أدبيات الحركة الإسلامية في مصر لم تنس قطعا هدفها البعيد، فشك فينا رفقاء الثورة ومالوا سريعا مع عدونا وعدوهم، فثاروا ضددنا مع عدونا وعدوهم، فحتى لو كانت مشاركتهم رمزية، إلا أن وجودهم الفاعل في المجتمع الدولي والإعلام الملوك لهم منذ عقود مكنهم في هزيمتنا بلا شك.
إذا، كان من واسع خيالنا التقارب مع البعيد من أجل خطوات أسرع، فما أعجلنا؟ ولهذا فحلولي اليوم ليست من بينها كلام عن التصالح مع من يكره مشروعنا مهما وصف نفسه بأوصاف الحرية والليبرالية واليسارية وغيرها، فمشروعنا أضحى اليوم جد واضح، فمن يقبله فهو منا ولو كان يسمى نفسه ليبراليا أو يساريا، لذا فمحمد عبد القدوس ومحمد ناصر وائل قنديل وآيات عرابي وإحسان الفقه هم منا، وحرياتهم جزء متاح داخل مشروعنا ذاته. أما البرادعي وحمزاوي فهم ليبراليون غربيون يتقاطعون معنا في نقاط، لكنهم لن يقبلوا مشروعنا كاملا، فهو عندهم مشروع متطرف في أساسه، لكونه لا يتقاطر خلف المشروع الغربي الذي ينعمون به منذ عقود.
ومن عيوبنا الكبرى أننا جعلنا مراحل خطواتنا دينا ومشروعا! وليس طريقا للمشروع، فمثلا الوهابية كانت طريقا للمشروع حولها بعض أتباعها لتكون هي ذاتها مشروعا! ونسوا أن فكرة الشيخ محمد بن عبدالوهاب هي فقط اصلاح العقيدة واصلاح الطريق، لكن هذا الإصلاح، لأسف، لبس عقال أهل نجد، فبدلا من أن يستمر التفكير والعمل والإصلاح للوصول إلى المشروع الإسلامي الحقيقي (سيادة الدنيا بالدين) لبسنا معا عقال أهل نجد، فدار حوارنا وحراكنا معا عن تقصير الثياب ولبس الجلباب ومعركة النقاب وغيرها وإن كانت بعضها سننا وبعضها عادات متروكة لطبيعة البلاد والعباد وساحة الخلاف فيها معقول ومقبول.
وفي السودان كان المهدي يقاوم المستعمر الغاشم بلا شك، لكنه بدلا من رسم سياسة طويلة للمقاومة وضع نفسه مخلصا وأضحى مهديا خاتما لطريق الجهاد! فبموته انكفي المجاهدون ليصبحوا دراويش يميلون يمنا ويسار، لأنهم ذبحوا أنفسوهم بأنفسهم وما عادل لهم إلا رقصة المذبوح حي حي يريدون إثبات حياتهم رغم الممات وليس طلب العون من المحي جلا في علاه.
وفي ليبيا تكالب المستعمر على السنوسية وحصرها في نقاط أهمها أنها لا تتعدى الديار (البيت المسلم) ولا يتعداه إلى مجتمع أو أمة! ثم جاء صاحب النكسة وأسكت صوتها تماما.
ولما جاء البنا بإضاءة كبرى وسطر مشروعا ضخما دحرجناه ليكون سلما ننظر لآخره حلما، وفي ذات الوقت لا ننوى أن نتعدى ثلاث سلالم منه (الفرد، البيت، المجتمع) ولما جاءت الثورة المصرية أردنا أن نقفز ثلاث درجات مرة واحدة ونأخذ معنا أعدائنا إلى الدولة المسلمة! وهيهات!!! فقد أخذنا معنا سوسا أكبر منا أخذ يقضمنا قضما.
والحل يحتاج لإعادة التفكير مرات ولا يكفي فيه كتابة مقال هنا، لكنه تنبيه يدعو لدراسة جادة لما نحن فيه، بعيدا عن تضخيم الأخطاء أو تصغيرها، ولا مانع من دراسة كل الاحتمالات غير احتمال واحد مرفوض قطعا وهو منح الظالم أي مشروعية!!! ولنأخذ وقتا لتنضج أفكارنا، وليكون ذلك في حضور مفكرين وثورين وشباب، ومن ثم نأخذ قرارنا التاريخي. إما أن يقتنع الشباب بوجهة نظر المفكرين وهو استمرار السلمية وبالتالي مدها بوسائل جديدة توقظها وتوقد شرارتها وتعيد لها هيبتها، ومن أهمها أحياء الثورة المنظمة وليست العشوائية. وفي هذا باب كبير لن أفتحه في مقالي هذا. وإما أن يرتضى المفكرون رؤية جديدة يستنبطونها من الشباب الثوري والعمل الفورى على تنفيذها مهما تكلفنا. ونحن قادرون بإذن الله على تحويل المسار في غضون شهور قليلة. شرط أن يتضمن هذا الحل ويتواكب معه مؤتمر للحركة الإسلامية مع تنوع جماعاتها في وضع خطة عامة نتفق على مشروعنا كتابة وليس فقط ضمنيا.
وليتم ذلك يجب أن يجتمع وفد من كل طرف من أطراف الحركة الإسلامية بتنوع أفكارها ورجالاتها، وليكن هذا الاجتماع خارج مصر، ندشن اتفاق على صياغة المشروع الذي سنعمل له في مجالات عدة، وكيف سنقيم دولة وأمة بخطوات حقيقية، ومن يصلح من الحكومات أو الهيئات لتدريب آلاف منا ليكونوا دعاة مترابطين لمشروع الأمة الذي ننشده ونحلم به منذ عقود، ومن ثم تدريب كوادر إعلامية ورجال دولة وقادة أمة وحكماء يبصرون الخلافة واقعا وليس حلما، ويقوم هذا الاتفاق على مجموعة مبادئ واجراءات تحكم العمل منها أن يتعهد كل من يحضر:
· أن يتفق الجميع على المشروع وطريقة العلم وكيفية التعاون مع إخوانه.
· أنه سيتخلص من حبه لنفسه وجماعته على حساب الإسلام.
· أنه سيظل مرتبطا بحركته، لكن ليقودها لتحمل عبأ الإسلام مع غيرها.
· أن يقدم كل وفد تقريرا لعمل جماعته وقدرتها في مصر على تحمل الأعباء.
· أن نلتحم بالمجتمع ولا نتعالى عليه، فقد خبأ الله لنا فيه خيرا كثير سنراه قريبا.
· أن نوسع دائرة المشاركة لغير المنظمين ففيهم طاقات هائلة.