وليد شوشة
في تمام السادسة والنصف من صباح الرابع عشر من أغسطس عام 2013 ، هرولت احدى أخوات الدكتورة "أمامه الحسيني" و المعتصمة بميدان رابعة العدوية بالقاهرة إلي خيمتها في هذا اليوم الحزين ، وأخذت تهزها وتنادي " أمامه قووووووومي الدبابات داخلة الميدان الآن من عند طيبة مول ".
هكذا أفاق المعتصمون في الميدانين المنكوبين ، رابعة والنهضة ، على أصوات ذويهم تهزهم بعنف ، وأصوات قوات الجيش والشرطة ، وطلقات رصاصهم التي صمت آذانهم ، وهوت بأجسادهم .
لقد كانت المفاجأة التي لم يكونوا يتصورونها أبداً ، أو ترد علي خيالهم ، أو تمر بأحلامهم . سارعت المنصة بالنداء عبر مكبرات الصوت على من بداخل الخيم أن يُسارعوا بالخروج منها ، فقد بدأ زحف القوات المُدججة بأقوى الأسلحة من المجنزرات ، والمدرعات ، والجرافات ، وحتى الطائرات ، وأعداد رهيبة من الجنود المدربين علي القتل ، بزيهم العسكري ، وأسلحتهم الخفيفة ، والثقيلة ، وأعداد كبيرة من القناصة الذين اعتلوا أسطح البنايات المجاورة .
"أحمد الخولي "أحد المعتصمين الذين كانوا هناك ، يروي اللحظات الأولي :" بدأ الاقتحام مع الإصابات المباشرة بطلقات الرصاص الحي ، حتي أنني رأيت بعيني مصاب يده متهتكة من الرصاص ...لم يكن هناك لا فض بالمياه ، ولا تصاعد في الفض ، كما يزعمون إلا لو كان الرصاص الحي أول أساليب الفض ..لأن ما جاء بعده كان أسوأ " . واستمر المشهد الرهيب لساعات ثقيلة حتي انفض الميدان عن مشاهد أليمة وقاسية ، لن تُمحى من ذاكرة كل من عاشها وشاهدها ، أو راقبها ، وسمع عنها ممن حضرها ، وكيف تُمحى أحداثها من ذاكرتهم و الرصاص لا يزال في أجسادهم.
هذا الاجرام ، وهذه الوحشية البربرية ، وهذه الدماء المهراقة ، ما كانت لتحدث لولا عدة أسباب ساعدت ودعمت الفض بهذه الطريقة البشعة، والتسبب في حدوث هذه المجازر الأليمة ، التي لم يُحاسب عليها أحد حتي الآن.
أولاً: تجييش الاعلام ..وبدء الحملات الاعلامية المسعورة من القنوات الفضائية الرسمية ، والخاصة ، والصحف لتهيئة الرأي العام لتقبل المذبحة ، وبدأت الاكاذيب والتهم تنهال على المعتصمين ، كما انهال عليهم الرصاص ، وعلى أخلاقهم وشرفهم ، بل حتي أرجع بعض الاعلاميين تدهور الاقتصاد ، وتراجع السياحة للاعتصام...
من هذه الاكاذيب. ..
* انتشار الجرب (مرض جلدي) بين المعتصمين بسبب طول الاعتصام ، وكثرة الاختلاط ، وعدم وجود مياه للاستحمام ، وأخذوا يظهرون صور المعتصمين الذين يقومون برش المياه من شدة الحر بأنها مبيدات للوقاية من الجرب.
* روجت وسائل اعلام مرئية شكاوي سكان رابعة حول الرائحة المنفرة للمعتصمين ، وانتشار القمامة .
*الحديث عن وجود أسلحة كيماوية.
*الترويج بأن المعتصمين يقومون باستخدام المنازل لتوجيه قذائف الهاون ، والأسلحة الثقيلة.
* الترويج بأن المعتصمين يُعذبون بعض سكان المنطقة لإجبارهم علي الاعتصام.
* الترويج بأن المعتصمين يقومون بتأجير الأطفال واستخدامهم في المظاهرات
*الترويج علي لسان "أحمد موسي "بأن هناك 80 مقتولاً وُضعوا في منطقة الصرف الصحي ، كانوا قد قُتلوا في رابعة ، ثم بادروا بدفن جثث أخري عند كرة أرضية أسفل منصة رابعة.
*الخلوة الشرعية، وجهاد النكاح ..زعموا بأن المعتصمين يوفرون أماكن داخل الاعتصام للخلوة الشرعية بمقابل مادي بسيط، ثم تطور الامر إلي أسطورة جهاد النكاح ، ووجود سوريات لهذا الغرض داخل الاعتصام.
*الترويج بوجود مقابر جماعية تحت منصة رابعة ، وحرق الجثث قبل الفض ، والحديث عن وجود مقابر جماعية في مسجد رابعة بعد الفض لمواطنين أرادوا الخروج من الميدان.
ثانياً : استضافت قنوات فضائية عددا من السياسيين والخبراء الأمنيين والقيادات الإخوانية السابقة، الذين رأوا أن فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة حدث تاريخي وضروري للقضاء على ما أسموه "بؤرتي القيح والصديد في جسد الوطن".
• تصريح مرفت التلاوي ،رئيس المجلس القومي للمرأة في مؤتمر صحفي يوم 1/8/2013 بأن " ما يحدث في اعتصام رابعة شيء مُخل بالسلام الاجتماعي ، حيث يتم اختطاف السيدات واجبارهن علي البقاء هناك وهذا أمر مرفوض تماماً ، وادعاءها باستخدام الأطفال دروعاً بشرية.
ثالثاً: الدين...التسريبات التي خرجت من وزارة الدفاع لعلي جمعة وعمرو خالد ، وسالم عبد الجليل ، وسعد الهلالي وغيرهم.
يقول علي جمعة : "...مع حرمة الدم وعظمه ، يُبيح لنا رسول الله أن نقاتل هذا الخارجي ". وقال :" اضرب في المليان ، اياك أن تُضحي بأفرادك وجنودك من أجل هؤلاء الخوارج " " طوبى لمن قتلهم وقتلوه ، من قتلهم كان أولى بالله منهم ، بل اننا يجب أن نُطهر مدينتنا ومصرنا من هذه الأوباش ، انهم لا يستحقون مصريتنا...اننا نُصاب بالعار منهم ، يجب أن نتبرأ منهم براءة الذئب من دم بن يعقوب ..ناس نتنة ريحتهم وحشة في الظاهر والباطن".
سالم عبد الجليل يقول : " تتحدث عن انقلاب عسكري ...أي انقلاب هذا ، انها ارادة الشعب ،هؤلاء والله دعاة فتنة ، ليس من الشرف أن يكونوا مصريين ، انهم بغاة ، وعليهم أن يتوبوا إلي الله ، ولو بقوا على هذا أقول لا يقرهم دين ولا يقرهم عقل ولا منطق ، وعلى الدولة أن تتخذ حيالهم من الاجراءات القانونية لمنع خطرهم ...هؤلاء مجرمون ..هؤلاء بُغاة ..على الدولة أن تتخذ الاجراءات المباشرة للقضاء على هؤلاء" .
عمرو خالد يقول مخاطبا الجندي : " تصدق إن انت بمحافظتك على كل ذرة في تراب سيناء، وكل ذرة في تراب مصر انها تفضل متحدة حتة واحدة دا دليل انك نفذت كلام النبي صلي الله عليه وسلم ".
سعد الهلالي قال في تصريح لجريدة الوطن :" وردا علي سؤال هل تؤيد فض اعتصام رابعة . قال : بالتأكيد مع الفض . الاعتصام يُؤذى الناس ، وأنا استنكر الزج بالنساء والاطفال في هذا المجال " .
رابعاً: الصمت الغربي والدولي .. جاءت ردود أفعال الدول الاوروبية متفاوتة، كان أغلبها إدانات ، صاحب بعضها استدعاء سفراء مصر ، وقرارات مست العلاقة بين تلك الدول ومصر. واكتفت بعض الدول بإبداء قلقها إزاء تدهور الأوضاع في مصر، والمطالبة بضبط النفس والعودة إلى الحوار بين مختلف الأطراف. القرارات التي صدرت عن بعض تلك الدول كانت في أغلبها مؤقتة تم التراجع عنها لاحقا، و زادت حدة بعض المواقف حينها ووصلت إلى حد المطالبة بعودة الرئيس مرسي ، كما صدر عن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو. وكذا موقف الولايات المتحدة التي أدانت بقوة لجوء قوات الأمن للعنف، وقررت الغاء مناورات النجم الساطع ، ثم الغاء تسليم عدد من طائرات إف 16 للجيش المصري، واستدعت الخارجية البريطانية و الألمانية السفير المصري معربة عن قلقها ، ثم أعلنت الأولي إيقاف تعاونها مع القوات الأمنية المصرية، وقالت "انجيلا ميركل" إن ألمانيا ستعيد النظر في علاقاتها مع مصر. ...ثم تبخرت رود الفعل تلك ، وظلت فقط في حدود التصريحات الدبلوماسية ، وعادت المياه لمجاريها ، بل وتعمقت العلاقات ، وقام السيسي بزيارة فرنسا وأتم صفقة شراء 24 طائرة رافال المقاتلة ، وزار ألمانيا ، وتم دعوته لزيارة بريطانيا ، وتم استلام 8 طائرات اف 16 من أمريكا ، والتي تعهدت باستمرار المعونة العسكرية للجيش المصري، واستقبل أوباما السيسي علي هامش انعقاد قمة المناخ بنيويورك ، وزار وزير الخارجية الأمريكي مصر عدة مرات.
خامسا : غياب الوعي الجمعي ..لقد تم عمل غسيل للمخ الجمعي المصري بنجاح ، واطمأنوا إلي أن أحدا لن يتحرك غير أنصار المعتصمين وأقاربهم ، وظن البعض ممن نجا من الهولوكوست الربعاوي ، أن يجد هبة كبري لنجدتهم، ولكنهم صُعقوا عندما رأوا القاهرة سادرة في غفلتها ، والناس عنهم مشغولون ، أو متهمون وفرحون ، أو شامتون في دمائهم. وحدثني صديق كان قد خرج مع ألاف عند مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية، أنه لم يجد أحداً في الشوارع بعد فرض حظر التجوال، وأعياه البحث عن سيارة أجرة ليبحث عن أخيه الذي اعتقلته قوات الأمن.
سادساً: الميدان.. المدينة الفاضلة، لانفتاح الاعتصام علي الجميع ، استطاعت أجهزة الاستخبارات من الدخول بأفرادها رجالاً ونساءً ، أطلق الرجال لحاهم ، ولبست النساء الحجاب والنقاب ،وظلوا لأيام يدرسون ويفحصون كل شيء في الميدان. لقد تحول الاعتصام مع الوقت إلي أسطورة ورمز للصمود والحيوية التي أبهرت العالم ، وأرسلت معظم وكلات الأنباء والقنوات الفضائية مراسليهم ليمكثوا هناك وينقلوا للعالم ما خفي عنه ، حتي تعاطفت الشعوب الحرة معهم . لقد كان بحق المدينة الفاضلة التي احتوت بداخلها على جميع أطياف وأشكال المصريين من كل الفئات والأعمار ، والأفكار والمهن والأجناس ، فقراء وأغنياء ، لقد سكنت هناك أسر وعائلات بأكملها ، وكان رمزاً للإبداع ، والتفاؤل والالتحام والتنظيم الدقيق، لقد كان كل شيء يسير طبيعياً مع كثرة الحشود المتزايدة يومياً والتي وصلت في بعض الأيام إلي مليونيه، لقد كانت المنصة تعمل ليلا ونهاراً ورأينا فوقها جميع ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، المعارض للانقلاب ، واللجان الموزعة للأعمال تقوم بواجبها وكأنها خلية نحل، وكل يوم يفور الميدان ويغلي بكثير من الفعاليات والمناقشات العلنية والجانبية ، وكان كل زائر للميدان لبعض الوقت بمثابة صحفي ينقل كل ما رأي وسمع إلي أهله وأصحابه وجيرانه الذين لم يذهبوا، وتكلموا عن حسن أخلاق المعتصمين وحمايتهم للنساء ، ورعايتهم لكبار السن والأطفال ، فلم تُشاهد حالة واحدة للتحرش أو السرقة، وانتشر التعاون والايثار، ومعانى الاخوة ، والسلام النفسي والاجتماعي ، وكرم الضيافة حتي لأشخاص لم يقابلوهم من قبل ، والتنافس بين جميع المهن للابتكار، والتغلب على المصاعب التي تواجههم ، كدورات المياه ، التغلب على حرارة الجو، ورأينا طائرة بدون طيار للتصوير، وخيم بأكثر من دور، ومدينة ملاهي للأطفال، ووجود مخابز لعمل كحك العيد . كل ذلك وغيره كان من العوامل التي عجلت بالفض ، وبهذه الطريقة الوحشية لإبادة هذا النوع الفاضل من البشر ، حتي لا تنتشر عدوى الفضيلة والصمود ، والشجاعة ، والابداع بين الشعب، وحتي لا يزداد تعاطف شعوب العالم والضغط علي حكوماتها للوقوف بجانب المعتصمين .