بقلم \ وليد شوشة
ضريبة الذل
جلست ساعة بين يدي الاستاذ سيد قطب ، أشكو له الحال التي وصلت إليه البلاد ، وما وصل إليه العباد ، بدأت أسأله عما يُحيرني من هؤلاء الذين اختاروا لأنفسهم السير في ركاب الظالمين ، والمستبدين . وكيف انقلبوا على قيمهم ، وهانوا علي أنفسهم ، ورضوا بالعيش الذليل تحت أقدام المتجبرين عيش العبيد ، وقد كانوا لنا كالنجوم الساطعات ، لمكانتهم وعلمهم . ثم تنازلوا عن كل ذلك فسقطوا من أعين الناس بعد ما سقطوا من عين الله .
قلت يا سيدي...لقد ظن هؤلاء أصحاب النفوس الضعيفة أن للكرامة والحرية ضريبة باهظة لا يطيقونها ، وثمنها فادحاً لا يقدرون علي دفعه ، ومصالح عظيمة اكتسبوها لا يستطيعون التنازل عنها والتفريط فيها ، وقد ظنوا أنهم بذلك الفرقة الناجية ، وقد أمنوا علي أنفسهم وأولادهم وأموالهم ومصالحهم ، كما أمنوا بطش الظالم وجوره ، وأفتى لهم بعض فقهائهم بذلك . فهل هم كذلك ؟؟
فقال بعد أن رحب بنا : " هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة . انهم يؤدون ضريبة الذل كاملة ".
قلت : عفوا سيدى ...لكن كيف يؤدونها ؟؟؟
فقال : " يؤدونها من سمعتهم ، ويؤدونها من اطمئنانهم ، وكثيراً ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون ".
قلت صدقت ، والواقع يشهد لك ، وما اقالة محمد إبراهيم ، ومقتل النائب العام ، وفضيحة قاضي الرشوة الجنسية إلا برهان ودليل. ثم أردفت قائلاً :لكنهم ينالون ثمن ما يبذلون ...قربى الحاكم ، ومناصب الجاه .
قال بعد أن ابتسم :" انهم ليحسبون أنهم ينالون في مقابل الكرامة التي يبذلونها ، قربي ذوي الجاه والسلطان حين يؤدون إليهم ضريبة الذل وهم صاغرون. ولكن كم تجربة انكشفت عن نبذ الاذلاء نبذ النواة بأيدي سادتهم الذين عبدوهم من دون الله . كم من رجل باع رجولته ، ومرغ خديه في الثري تحت أقدام السادة ،وخنع وخضع ، وضحى بكل مقومات الحياة الانسانية ، وبكل المقدسات التي عرفتها البشرية ، وبكل الامانات التي ناطها الله به أو ناطها الناس ...ثم في النهاية إذا هو رخيص رخيص ، هين هين ، حتي على السادة الذين استخدموه كالكلب الذليل ؛ السادة الذين لهث في اثرهم ، ووصوص بذنبه لهم ، ومرغ نفسه في الوحل ليحوز منهم الرضاء .ثم قال باستنكار: " كم من رجل كان يملك أن يكون شريفاً ، وأن يكون كريماً ، وأن يصون أمانة الله بين يديه ، ويحافظ علي كرامة الحق وكرامة الانسانية ، وكان في موقفه هذا مرهوب الجانب ، لا يملك له أحد شيئاً ، حتى الذين لا يريدون له أن يرعي الأمانة ، وأن يحرس الحق ، وأن يستعز بالكرامة ، فلما أن خان الأمانة التي بين يديه ، وضعف عن تكاليف الكرامة ، وتجرد من عزة الحق ، هان على الذين كانوا يهابونه ، وذل عند من كانوا يرهبون الحق الذى هو حارسه ، ورخص عند من كانوا يحاولون شراءه ، ورخص حتى اعرضوا عن شرائه ، ثم نُبذ كما تٌنبذ الجيفة ، وركلته الأقدام ، أقدام الذين كانوا يعدونه ويمنونه ، يوم كان له الحق جاه ، ومن الكرامة هيبة ،ومن الأمانة ملاذ ".
ثم سكت قليلاً وأنا أنتظر بلهفة الأب المنتظر عودة ولده ، ثم قال :"كثير هم الذين يهوون من القمة إلى السفح لا يرحمهم أحد ، ولا يترحم عليهم أحد ، ولا يسير في جنازتهم أحد ، حتى السادة الذين في سبيلهم هووا من قمة الكرامة إلى سفوح الذل ، ومن عزة الحق إلى مهاوي الضلال ".
قلت ألا يتعظون ممن سبقهم ، ويؤوبون إلى رشدهم وكرامتهم وانسانيتهم ؟؟
فنظر نظرة أسف وقال : "ومع تكاثر العظات والتجارب ، فإننا ما نزال نشهد في كل يوم ضحية : ضحية تؤدى ضريبة الذل كاملة ، ضحية تخون الله والناس ، وتضحى بالأمانة والكرامة . ضحية تلهث في اثر السادة ، وتلهث في اثر المطمع والمطمح ، وتلهث وراء الوعود والسراب ...ثم تهوى ، وتنزوي هنالك في السفح خانعة مهينة ، ينظر إليها الناس في شماتة ، وينظر إليها السادة في احتقار".
قلت هل فضيلتكم قد شاهد أمثال هؤلاء الذين نشاهدهم كل يوم يهوون إلى سفوح الذل ؟؟
فنظر إلى متعجباً ، حتى قلت ليتني لم أسأل ، ثم هز رأسه كأن نعم وقال : "لقد شاهدت في عمرى المحدود – وما زلت أشاهد – عشرات من الرجال الكبار يحنون الرؤوس لغير الواحد القهار ، ويتقدمون خاشعين يحملون ضرائب الذل تبهظ كواهلهم ، وتحنى هاماتهم ، وتلوى أعناقهم ، وتنكس رؤوسهم ... ثم يُطردون كالكلاب ، بعد أن يضعوا أحملاهم ، ويسلموا بضاعتهم ، ويتجردوا من الحسنيين : في الدنيا والآخرة ، ويمضون بعد ذلك في قافلة الرقيق لا يحس بهم أحد حتى الجلاد ".
ثم سكت طويلا حتى ظننته قد أنه كلامه ، وقد حدثتني نفسي بالانصراف ،و فجأة بنبرة حزينة قال : "لقد شاهدتهم وفي وسعهم أن يكونوا أحرار ، ولكنهم يختارون العبودية . وفي طاقاتهم أن يكونوا أقوياء ، ولكنهم يختارون التخاذل .وفي امكانهم أن يكونوا مرهوبي الجانب ، ولكنهم يختارون الجبن والمهانة ...شاهدتهم يهربون من العزة كي لا تكلفهم درهماً ، وهم يٌؤدون للذل ديناراً أو قنطاراً . شاهدتهم يرتكبون كل كبيرة ليرضوا صاحب جاه أو سلطان ، ويستظلوا بجاهه".
فأخذتني دهشة واستغراب ، وقلت في نفسي سبحان الله إن هؤلاء من نشاهدهم الآن ، إنهم ليسوا مقطوعي الصلة عن أسلافهم . ولما لاحظ تعجبي ، قال : " لا . بل شاهدت شعوباً بأسرها تشفق من تكاليف الحرية مرة ، فتظل تؤدي ضرائب العبودية مرات . ضرائب لا تقاس إليها تكاليف الحرية ، ولا تبلغ عشر معشارها ، وقديماً قالت اليهود لنبيها :" يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ" فأدت ثمن هذا النكول عن تكاليف العزة ،أربعين سنة تتيه في الصحراء تأكلها الرمال ، وتذلها الغربة ، وتشردها المخاوف...وما كانت لتؤدي معشار هذا كله ثمناً للعزة والنصر في عالم الرجال "
فاستأذنته للسؤال ، فأذن لي فقلت : يا استاذي هل للذل ضريبة يدفعها أصحابها كما يدفع أصحاب العزة والكرامة والحرية ضريبتها ؟؟
قال :"إنه لابد من ضريبة يؤديها الافراد ، وتؤديها الجماعات ، وتؤديها الشعوب. فإما أن تؤدى هذه الضريبة للعزة والكرامة والحرية ، وإما أن تؤدى للذلة والمهانة والعبودية . والتجارب كلها تنطق بهذه الحقيقة التي لا مفر منها ولا فكاك ".
وفي خلسة نظرت لساعة الحائط المعلقة أمامي ، فوجدت أنى قد أثقلت على الاستاذ ، ويجب أن يستريح فقررت أن يكون آخر سؤال لي ، فقلت هل من كلمة إلى هؤلاء ؟؟
فقال مشكوراً :" إلى هؤلاء جميعاً ؛ أوجه الدعوة أن ينظروا في عبر التاريخ ، وفي عبر الواقع القريب ؛ وأن يتدبروا الأمثلة المتكررة التي تشهد بأن ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة ، وأن تكاليف الحرية أقل من تكاليف العبودية ، وأن الذين يستعدون للموت تُوهب لهم الحياة ، وأن الذين لا يخشون الفقر يُرزقون الكفاية ، وأن الذين لا يرهبون الجاه والسلطان يرهبهم الجاه والسلطان . ثم قرأ قوله تعالي" مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا".
فقبلت رأسه ويده معتذراً عن الاطالة والإثقال عليه ، ثم شكرته ، ورجوته لو يسمح لنا بلقاء آخر، وانصرفت وأنا مشفق على هؤلاء الذين يدفعون للذل ضريبته ، وتمنيت لو يعودوا إلى رشدهم ، وقيمهم وشعبهم .