بقلم : مجدي مغيرة
كنا نظن ونحن صغار أن الدجل حرفة وصناعة مرتبطة بالأزمنة القديمة وبالريف والأمية والمناطق الشعبية ، حيث يستغل الدجالُ جهلَ الناس وغفلتهم ليدلس عليهم بالأوهام كي يستخرج منهم المال والهدايا والعطايا .
لم نكن ندري وقتها أن الدجل أنواعٌ كثيرة ، وأنه بضاعة رائجة في كل زمان وفي كل مكان وفي كل الأوساط البشرية من أغناها لأفقرها .
كذلك ارتبطت صورة الدجال عندنا بإشعال النيران وحرق البخور ، يلبس الدجال أثناء ذلك الثياب غريبة الأطوار ، ويحرك رأسه يمينا وشمالا مع لحية كثة ، وتتدلى من عنقه العقود ذات الألوان المختلفة ، ويدندن بكلمات غير مفهومة تقذف الرعب في قلوب البسطاء ؛ فيسارعون بتصديقه وبتلبية كل حاجاته .
لكننا بعد ذلك اكتشفنا ألوانا من الدجل أكثر مهارة ، وأشد خطورة ، فالدجال البسيط يحتال على البسطاء ليسلبهم قروشهم القليلة ، أما هؤلاء الدجالون فيسلبون شعوبا ودولا ، يقودونها إلى هلكتها ، والشعوب فرحة مسرورة ، وتنقاد برغبتها إلى الانتحار ، تهتف بحناجرها هتافا قويا يزلزل أركان الأرض تحية للدجال الذي تظنه زعيما خالدا ، وقائدا فريدا .
مازال الدجل هو خير وسيلة يستخدمها حكام السوء للسيطرة على الشعوب ، ومازالت كثير من الشعوب تصدق الدجالين وتكذب الناصحين .
وما أعظم أمير الشعراء أحمد شوقي في وصف هذا النوع من الدجل في رائعته المسرحية ( مصرع كليوباترا) حيث عادت ملكة مصر البطلمية المهزومة مع عشيقها “مارك أنطونى ديون “
إلى الإسكندرية مدعين نصرا مزعوما على أسطول “أوكتافيوس” ، حيث تجري أبيات شوقى بالنص:
اسمع الشعب ( ديون) كيف يوحون إليه
ملأ الجو هتافا بحياة قاتليه
أثَّرَ البهتانُ فيه وانْطَلَى الزورُ عليه
ياله من ببغاء عقله في أذنيه…!!
لقد تغيرت الأدوات ، فبعد أن كانت حبالا وعصيا يُخيل للناس أنها حيَّاتٌ تسعى ، وبعد أن كانت تهاويم يصنعها الكُهَّانُ ، أو رقصات مجنونة يؤديها السحرة ، أو قصائد يدبجها الشعراء ، أصبحت الأدواتُ الآن ارتداءَ حلةٍ فاخرة ورابطة عنق أنيقة ، أو بالطو مختبر علمي ، ونظارة طبية أو شمسية تضفي مهابة على من يلبسها ، ويتقدم صاحب هذه الأدوات إلى الجمهور وهو يحمل لقب الدكتور أو الخبير أو المختص أو المفكر أو الشاعر أو الروائي أو ... أو .... ومهمة هؤلاء هو البحث عمَّن يدفع لهم ليلمِّعُوه أمام الناس ، ويصورونه بطلا مقداما ، أو عبقريا فذاً عجزت الأمم عن الفوز بمثله ، لكنه نشأ في بلادنا ، وتربى في أحضانها ، وارتوى من نيلها ، وتلون وجهه من شمس أصيلها ، وصار لأوطاننا زعيمها المفدى ، وقائدا لمسيرتنا العريقة ، ورائدا لتنمية أبهرت البشرية وستظل تبهرها آماد الآماد .
ولا يقصر الزعيم أبدا في توفير ما يحتاجه هؤلاء الدجالون من فضائيات وصحف ومجلات ، وموسيقى ومكبرات الصوت ، وكاميرات التصوير ، وأجهزة الكومبيوتر تعيد تركيب صورة غير الصورة ، وتخرج لنا واقعا غير الواقع ، يحسبه المغفلون حقيقة وهو سم زعاف يتجرعونه ليل نهار .
وفي الوقت الذي تضيق يد الزعيم على شعبه بالمال ، ويعيش الشعب عيشة ضنكا ، تراه يغدق الأموال على هؤلاء بلا حسيب ولا رقيب طالما كانوا ناجحين في أداء مهمتهم ، لكن يذوق بعضهم سوء العذاب ، ويتحول غناه فقرا وعزه ذلا لو خرج عن أداء المطلوب منه .
هؤلاء الدجالون يجعلون هزائم الوطن نصرا ،وخسائره مكاسب طائلة ، وتخلفه تقدما ، ويُظهِرون الحاكمَ المنبطح للأعداء شجاعا لا يهاب إلا الله ،وقد يصفه بعضهم بأنه شجاع لا يهاب حتى الله تعالى .
ولا يتذكرون عظمة الشعب إلا عندما يريدونه مصفقا للحاكم ، هاتفا بحياته ، مؤيدا لقراراته ، أما إذا طالبهم أحد بشيء من الحرية ، وشيء من العدل والمساواة ، وشيء من الرفق بالناس ، خرج لك الدجالون يتشدقون بما يدعونه حكمة ، ويقولون أن الشعب لم يُهَيأْ بعد للحرية ، ولا يصلح الآن للديمقراطية .
وإذا تكلمت عن الفساد خرج لك من يردد : كل بلاد الدنيا بها فساد ، فإذا طالبت بتعليم يرتقي بالدولة كما ارتقت كثير من الأمم بالتعليم ، ذكروك بعلماء مصر الحاصلين على جوائز عالمية ، متناسين أن هؤلاء لو كانوا مستقرين في مصر لما سمع بهم أحدٌ حتى جيرانهم .
إن الحاكم الدجال لا يجتمع حوله إلا الدجالون ، مثلما لا يجتمع عظماء الأمة إلا بعظماء حكامها ، فمتى تنتهي تلك المهزلة ؟ ومتى يكون خيرنا هم من يحكموننا ؟
روى ابن جرير الطبري بإسناد صحيح عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " إذا كانت أمراؤكم خيارَكم وكان أغنياؤكم سمحاءَكم وكانت أموركُم شورى بينكم فظَهْرُ الأرضُ خيرٌ لكم من بطنها وإذا كانت أمراؤكم شرارَكم وكان أغنياؤكم بخلاءكم وكانت أمورُكم إلى نسائِكم فبطنُ الأرضِ خيرٌ لكم من ظهْرها" ...صدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم - .