الأستاذ الدكتور/ بسيوني نحيلة
الأستاذ بكلية الدعوة – جامعة الأزهر
تأتي الذكرى الثانية لمذبحة رابعة العدوية مع تزايد أشكال الابتلاءات وقساوتها على الثوار الأحرار الصامدين، الذين رفضوا الضيم والخنوع للطغاة المجرمين، وقرروا أن يعيشوا أحراراً أو أن يموتوا فداءً للوطن والدين. ولا يخفى ما في المشهد من دموية الأحداث القاتمة، وإجرامية السلوك الفج، فقد زاغت الأبصار، وأوشكت القلوب أن تبلغ الحناجر، مما ألقى بظلالٍ من اليأس على بعض الثوار، فجعلهم يظنون بالله الظنون، وجعل منهم من يقول: متى نصر الله؟. ولكن لا يمكن لأمة بقي القرآن يُتلى بين جنباتها بأحداث التاريخ أن تَحَار وهي في طريقها إلى نيل عزتها وكرامتها؛ فأحداث التاريخ كما جاء بها القرآن: تفسر الواقع، وتخفف الآلام، وتعين على النوائب، وتفضح تواطؤ المجرمين، وتشف صدور قوم مؤمنين.
وبمراجعة أحداث التاريخ مع استحضار أحداث رابعة، نجد فيضاً من العبر تتجلى أمام الأبصار والأفئدة من خلال غزوة أحد(7شوال، 3هـ) التي تتشابه في كثير من أحداثها، ونتائجها، وشخوصها، ودوافعها... مع مذبحة العصر في رابعة العدوية(7شوال، 1434هـ). وفي هذا المقال نحاول الوقوف على بعض العبر من خلال الأحداث المتقاربة بين أُحُد الغزوة ورابعة المذبحة؛ ليحيى من حيّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، ولعلها تكون ذكرى لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
- فبعد انتظارٍ طويلٍ بين البغي والطغيان، كانت فرحة المسلمين بنُصرة الحق وأتباعه في غزوة بدر، وما هو إلا عام حتى وقعت غزوة أُحد بمصابها الأليم، وأحداثها الدامية، تماماً، كالعام الذي فرح المصريون فيه بانتصار ثورتهم وانتخاب رئيسهم المدني، بعد سنوات من الظلم والاستبداد، حتى وقعت مذبحة العصر البربرية برابعة؛ لتقضي على حلم عام من الحرية والعدالة والإصلاح والبناء.
- لَامَ الله على رسوله أنه عفا عن المجرمين الذين حاربوه في بدر وقَبِل فيهم الفداء، ولم يأخذ برأي العقوبة الرادعة في أمرهم، ثم كانت الصدمة أن تجد هؤلاء الذين عفا النبي عنهم هم بأنفسهم الذين تآمروا عليه وعلى أتباعه، ونفذوا لغزوة أحد، وهذا ما حدث في السنة الأولى من انتصار الثورة وتمكينها بمصر، فلم يأخذ بعض قادة الثوار بمشورة الحزم في تخليص الوطن من المفسدين، وتطهيره من الخائنين، بل فضّل كثير منهم إعطاء فرصة للإصلاح، وإثبات نقاء الذات، مما أتاح للفسدة الغادرين أن يجمعوا كيدهم، فينقلبوا على من عفا عنهم، ويخونوا من أمّنهم، فكانت مذبحة رابعة على يدي الخائنين ممن عُفي عنهم، وارتُجي صلاحهم.
- رصدت قريش أموال قافلتها الناجية في غزوة بدر- وكان جُلّ أموالها منهوباً من المهاجرين- لإعداد جيش أُحد من أجل الإجهاز على المسلمين ونبيهم. وفي مصر تآمر أصحاب الأموال المنهوبة والنفوذ المسعور، من أجل القضاء على ثورة الشعب المقهور، والانقضاض على رموزها الأحرار في رابعة الصمود... وأخواتها.
- في بداية المسير إلى أحد الغزوة، وعلى الرغم من معاهدات واتفاقات الدفاع المشترك عن المدينة، انخذل رأس المنافقين بثلث الجيش، وقرر الرجوع إلى المدينة، تاركاً النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يواجهون جيش قريش الذي كان أضعاف جيش المسلمين قوة وعتاداً. ومثل ذلك حدث في رابعة العزة، فقد انتكست مجموعات ممن انتمت إلى الثورة على عقبها، وانقلبت على مبادئها، فخذلوا الثورة والثوار، وتركوهم وحدهم في ميدان رابعة العزة، يواجهون الخونة المدججين المتآمرين على استئصال ثورة العزة والكرامة.
- كان مخطط العدو في أحد الغزوة هو الاستئصال الأبدي للمسلمين بالقضاء على رسولهم ورموز دعوتهم، فلم يُوقفوا عدوانهم الظالم إلا بعد أن أُشيع قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن تم تصفية كبار الصحابة كمصعب، وحمزة... وغيرهما. كذلك كان الحال في رابعة، فلم يكن الأمر فضّ اعتصام، أو إنهاء تظاهرات، أو عودة الناس سالمين إلى بيوتهم، إنما كان مجزرةً دمويةً، وقتلاً متعمداً، وانتقاماً حاقداً، واستئصالا مبيتاً للثورة ورموزها، حتى لا يبقى شريان حياة لثورة، أو نَفَسُ بقاء لثائرٍ.
- في أحد تم استهداف أقارب النبي وكبار صحابته من المهاجرين والأنصار، فقد قُتل حمزة، عم النبي صلى الله عليه وسلم، واليمان، والد حذيفة، وعبد الله بن عمرو، والد جابر، وأوس بن ثابت، أخو حسّان، وخارجة بن زيد، صهر أبي بكر الصديق. وفي رابعة المذبحة وما أعقبها تم قتل أبناء وبنات وأقارب المخلصين من الثوار الأحرار وقياداتهم الأبرار، كعمار، وأسماء، وحبيبة، وهالة، وأحمد فرحات... وغيرهم.
- لقد لعبت هند(قبل إسلامها) ومن معها من نساء في أحد دوراً اعتذرت منه بعد إسلامها، قامت فيه بالثأر والتحريض، مستخدمة الخطب، والأشعار، والإغراءات المادية ضد المسلمين في أحد، وبخاصة الأبطال الأعلام. ولم يخل زمان رابعة من أمثال هند وصويحباتها في موقف أحد، إذ خرج من يُسمون بالإعلاميين والإعلاميات، ينعقون بالفجور والبهتان، و يشيعون الكذب والافتراء، محرضين على الأخيار الثائرين المدافعين عن كرامة الوطن وعزة المواطن، ولقد كان الدافع في كلٍ هو الحقد الدفين على أعلام الهُدى والنور، والكره المقيت لمبادئ الخير والحق أن تسود، مما حوّل قلوبهم ناراً موقدة، فأصبحوا لا يتنفسون إلا ضغينة سوداء، ولا يستنشقون إلا حقداً وبغضاء.
- أما عن تفاني الأشاوس في اُحد واستعدادهم للتضحية والشهادة في سبيل الحق، فكنت أظن أن نماذج صحابة الأنبياء تكون -فقط- للرواية وليست للتكرار، حتى وجدنا في رابعة الصمود العروس الذي يُستشهد غير مبالٍ، مثل: حنظلة في أحد، وقد رآه النبي يُغسل بين السماء والأرض، كما وجدنا فيها المعاقين الذين أصروا على البقاء في الميادين حتى اصطفى الله منهم الشهداء، مثل: عمرو بن الجموح في أحد، وقد رآه النبي يطأ بعرجته في الجنة. وإن كنا قد سمعنا في أحد عن الأصيرم، الذي كان كارهاً للخروج مع المسلمين في أُحد، وسرعان ما تبدل حاله ليكون ضمن كتائب الشهداء، فقد رأينا من شهداء رابعة الذين انتعش إيمانهم، واستيقظت هممهم في أيام رابعة، فأبوا أن يغادروها إلا شهداء... وغيرهم كثير، ممن نُقل عنهم أنهم حدّثوا أنفسهم وغيرهم بالشهادة، فصدقوا ما عاهدوا الله عليه في أحد ورابعة، فصدقهم الله.
- لم يكتف المعتدون في اُحد بقتل الأماثل من الصحابة، إنما أجهزوا بالجرحى، ومثلوا بالقتلى، فأنس بن النضر لم يعرفه أحد إلا أخته الرُّبَيّع، عرفته ببنانه، وكذلك حمزة الذي بُقرت بطنه، وأُكل كبده، وكأني برابعة تستصرخ العالم المتشدق بحقوق الإنسان وكرامة الآدمي أن على أرضها أحرق المجرمون الجرحى والشهداء، بل الأحياء بلا رحمة، وسحقوهم بلا إنسانية، وجرفوهم مع النفايات بلا آدمية.
- ذكرني اعتراف وحشي -بعد إسلامه- بأنه لم يكن له في أحد إلا وظيفة واحدة هي قتل حمزة في مقابل أن يتحرر من العبودية وأن يُغدق عليه من الأموال، بمن يعرفون بالبلطجية، وهم الذين يستأجرهم الطغاة المعتدون لقتل الشرفاء من الثوار والأحرار في مقابل تحريرهم من سجونٍ يستحقونها، أو مقابل فتات من الأموال المنهوبة، ولكم طالت يد هؤلاء الغادرين ممن لا مبدأ ولا خلق لهم شرفاء الناس وأماثلهم في رابعة... وأخواتها.
- لقد أعطت المرأة الثائرة في رابعة مثالاً لم نقرأ عنه في التاريخ إلا نادراً في تضحيتها بروحها، وسبقها الرجال في مواطن المواجهة والدفاع عن حرية وطنها ودينها وقيادتها، وكأني بالرسول الله يتحدث عنهن بمثل حديثه عن نسيبة بنت كعب في أحد، يقول:(ما ألتفت يميناً ولا شمالاً يوم أحد إلا وجدت نسيبة بنت كعب تقاتل دوني). فقد كنّ في كل موقع من رابعة: بين الجرحى يداوين، وبين الصامدين يدافعن، وبين المتضرعين يبتهلن، وبين الشهداء يرتقين، وبين الثوار مكملين.
- في أحد قال سعد بن الربيع: (فو الله ما لكم عند الله عذر إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف). وقال أنس بن النضر: (قوموا فموتوا على ما مات عليه). ومثل هذه الأقوال الخالدة سمعتها البشرية من على منصة رابعة، حيث ظل رجالها الصامدون الصادقون، يجأرون إلى الله القدير، يستحثون الناس لمواصلة الطريق، ويصدعون بالحق التليد، لا ترهبهم رصاصات القناصين وهي تُصوب نحوهم، وتتطاير فوق رؤوسهم؛ لتسكت زئيرهم، وتنكس أعلام الحرية والكرامة التي بقيت ترفرف فوق منصتهم.
- ما أعظم المصاب يوم أحد، فقد أُدمي الرسول وأُصيب، وقُتل الخيار والأحباب، وجُرح العشرات من الصحابة، وما من بيت إلا وسمع فيه البكاء، ورؤي فيه الحزن، فتحلى الجميع بالاحتساب والاسترجاع، والصبر والثبات، مرددين قوله تعالى:(هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله) وكذلك كان حال ثوار رابعة الذين زُلزلوا زلزالاً شديداً بقتل أحبابهم، وفقدان فلذات أكبادهم، فما وهنوا لما أصابهم، وما ضعفوا، وما استكانوا، إنما ظلوا يهتفون في عزيمة صادقة، وعهد متجدد(ثوار أحرار حنكمل المشوار)،حتى وهم يداوون جرحاهم، ويوارون شهداءهم الواحد تلو الآخر.
- كان من علامة الصدق في التوجه والثبات على المبدأ في صفوف الصحابة يوم أحد، أنهم -جميعاً- بجراحهم وآلامهم لبوا النداء لمتابعة مسيرة التضحية غير المشروطة، والدفاع الصادق عن دينهم وحرية اعتقادهم، فكانوا مع رسول الله في "حميراء الأسد" التي أعقبت غزوة أحد مباشرة. وهذا ما رأيناه في ثوّار رابعة الذين لبوا النداء في جميع ميادين مصر، وذلك بعد أن رأوا الموت بأعينهم وهم ينظرون، فما لانت لهم قناة، وما ضعفت فيهم عزيمة، وما انحفت فيهم نية، إنما تقدم جريحهم قبل صحيحهم، واستنهض نساؤهم رجالهم، ولسان حالهم وأفعالهم يترجم ما وصف الله به الصامدين الصادقين في أحد.(الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).
- لقد كانت أحد الغزوة مرحلة ضرورية ضمن السنن الربانية في التمكين للحق ونصرة أهله، فما كان الله ليذر المؤمنين دون أن يميز الخبيث من الطيب، كما تميز -سريعاً- منافقو الثورة الذين باعوها بعرض من الذل والهوان، من الثوار الصادقين الصامدين الذين لم يعطوا الدنية، ولم يرضوا بالخزي والخنوع في رابعة وما تلاها. وما كان للنصر المبين أن يتحقق بعد أحد قبل اتخاذ الله الشهداء واصطفائهم على كثيرين، وما دماء شهداء رابعة وما حولها من ميادين الثوار إلا ثاني مراحل النصر بعد أن تمايز الحق من الباطل، والغث من الأصيل، وتراكم الخبيث فوق الخبيث، وتجلى الطيب والطيبون. ثم اشتد الأمر بعد أحد في مصائب معنوية ومادية، اشتدت وطأتها في خيانات داخلية تزعمها يهود المدينة، مع خيانات خارجية في الأحزاب وغيرها، ولكنها حققت في المؤمنين التمحيص الموعود به قبل مرحلة التمكين ومحق المعاندين، حتى تم وعد الله لرسوله والمؤمنين بالتمكين الذي لم يلبث إلا قليلا حتى رآه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصامدون المحتسبون بعد أقل من 5 سنوات من أحد عندما أنزل الله عليه في طريق عودته من مكة في صلح الحديبية:(إنا فتحنا لك فتحا مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً وينصرك الله نصراً عزيزاً). وإن ما يمر به ثوار رابعة اليوم من تمحيص اشتدت وطأته، واتسعت دائرته حتى طال أموالهم وأولادهم وأنفسهم ووطنهم إنما هو ثالث مراحل الوصول إلى النصر الموعود، ولا يبقى إلا المرحلة الرابعة وهي التمكين للثوار المتمسكين بالمبادئ والقيم، الثابتين على عهدهم، المتوكلين على ربهم، ويأتي ذلك متزامناً مع ما نراه من استدراج الله للظالمين وأعوانهم حتى يلقوا حتفهم، ويُقطع دابرهم عن آخرهم، لقد كانت هذه المراحل الأربع هي عاقبة أحد الغزوة، وثمارها التي أينعت برِي دماء شهدائها، كما أنها وعد الله المنتظر لرابعة الثوار التي ضبطت المسار ليكون على خطى الأوائل ممن صدقوا ما عاهدوا لله عليه في أحد الغزوة. يقول تعالى:(إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين).
- لم يستوعب كثير من الصحابة في أحد الهزيمة، من شدة المصاب وفجأة الحدث، فهم المنتصرون في بدر، وفيهم رسول الله المؤيد بمعية الله ووحيه، كما أنهم أتباع الحق الأبلج. يقول تعالى:(أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم)، فردهم الله إلى الأسباب؛ ليقوموا بمعالجتها، حتى يحصل لهم النصر المبين الذي لا غبش فيه ولا ردة. والثوّار اليوم، وهم يعانون آلام المصاب، ومرارة الآلام في حاجة أن يعودوا إلى أنفسهم؛ فيعالجوها بوحدة الهدف وهدف الوحدة؛ ليتمم الله لهم ما أقر به أعينهم، وصدقهم فيه مرات مع بداية ثورتهم في انتصارات واستحقاقات، لم تكن لتتحقق في ظل التنازع والفشل الذي حذّر الله منه الأوائل، ممن أتمّ الله عليهم نصره، وأقر أعينهم بالتمكين للحق ودحر عدوهم. يقول تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). اللهم اعف عنا، واجعلنا أهلاً لفضلك الكريم ونصرك المبين.