د./ أسامه الرفاعي
لم يمضي الربيع العربي على النحو الذي كنا نحلم به؛ بل انقلبت نسماته الهادئه، إلى ريح عاصف، ما تذر من شيء أتت عليه، إلا جعلته كالرميم. وإن كان ربيع العرب، لم يمضي كما كنا نتمنى، إلا أنه قد مضى في الطريق، الذي تمضي فيه ثورات الأمم، و إن كره الكارهون. ليتحول من مجرد إنتفاضة؛ تطالب بتحسين ظروف المعيشه، إلى سلسلة من الاحداث الجسام، التي ستغير وجه التاريخ. و من يتأمل حالة الغليان و الحراك التي تشهدها بلادنا الآن يدرك أنها دخلت و بإصرار في مرحلة صناعة الثورة. و ما شهدناه في الأربع سنوات الأخيره، كان مجرد مقدمات و إرهاصات لهذه المرحلة، و لذلك شواهد؛ أذكر منها:
عودة الروح
إن الجسد الميت لا يشعر بالألم، و لا يحس بنزيف الدماء؛ و هذا كان حال الأمة العربية، قبل ان تشرق شمس الربيع العربي عليها. فقبلها، كان الوضع هادئاً؛ و لكنه هدوء الأموات، و مستقرا؛ و لكنه استقرار الماء الآسن، في البركة العفنه. و الذين يلومون الربيع العربي على المعاناه و الألم؛ الذي أصبحنا نشعر به، لا يدركون حقائق الأشياء. فالجراح و الآلآم، موجوده قبل أن يولد الربيع، و ما كان في جسد هذه الأمة موضع شبر، إلا و به ضربة بسيف؛ من سيوف أعدائها، أو طعنة برمح؛ من رماح الخونة من أبنائها.
الذي تغير حقا، هو أن هذا الربيع، قد أعاد الروح إلى الجسد الميت، فبدأ يشعر بالآلآم، و الجراح التي مزقت كل أركانه. فالإحساس نعمة؛ كما يقولون. و الأرض العطشى إذا نزل عليها الماء "اهتزت" و ربت؛ كأن الروح قد دبت فيها. و هذه الهزة العنيفة، التي تعيشها الأمة اليوم، هي خير دليل على عودة الروح إليها.
الضربة التي لا تقصم ظهرك
قسوة الأعداء في قطف كل زهرة أنبتها الربيع العربي، حولت هذه الأزهار من براعم رقيقة، إلى أشواك صلبة، لا تنحني للجاني، بل تمزق كل يد تمتد إليها.
وإذا كانت الأنظمة الإستبداديه، هي من يتولى مهمة، إقناع الشعوب بالثورة عليها، (عندما تغلق في وجهها كل طرق التغيير الطبيعية)؛ فإن هذه الأنظمة أيضا؛ هي من يخلق بقسوتها، و وحشيتها، جيلاً جديداً صلباً، لا يعرف غير طريق الثورة، و لا يؤمن بالحلول الوسط. و قد تلقى جيل الربيع العربي، الضربة في ثبات و صمود، و أصبح ظهره أقوى، و عوده أشد و أصلب.
قصص النضال زاد المسير
من كان يتخيل أن الأم المصريه، التي طالما كانت توصي ابنها؛ بأن (امشي جنب الحيط) - تحمل بيديها قميص اعدامه المخضب بالدماء، و تتحدى: بأنها على استعداد لتقديم جميع أبنائها للشهاده. و كلمة هذه الأم – و أمثالها كثر- أقوى من ألف خطبه، و أبلغ من أي مقال.
و عندما يكون في المعتقلات عشرات الألآف – تحت التعذيب و التنكيل- و لا ترى منهم، وفُودًا تخرج؛ لتبايع الطاغة، و تقر له بالسمع و الطاعة؛ فاعلم أن هؤلاء المعتقلين قد هزموا سجانيهم. و نحن نعلم يقينا؛ أن الشباب الذين تم تنفيذ حكم الإعدام فيهم، لم يسترحموا القتلة، و لم يطلبوا منهم العفو والمغفره.
هذه القصص من مصر؛ و مثلها من سوريا و ليبيا و العراق و اليمن، هي زاد يعين الثوار على الدرب، و سيبقى أثرها في الأمة، إلى أبْعد مما يتخيل الطغاه.
تراكم الخبرات
إن الله لا يستعجل لعجلة أحدكم. و الثورة ليست عملا خاطفا، و لا طبخة تتركها في الفرن ليلا؛ لتأكل منها صباحاً. و لكنها علمية مستمره، من الألم، و الأمل، و الإنتشار، و الإنحسار، و خليط من النجاح و الإخفاق، تمتد عبر فترة من الزمن، ليست بالقصيرة. و مع كل نجاح و فشل؛ يكتسب جيل الثورة خبرات جديده، لم يكن ليصل إليها، لولا صعوبة التجربه، و مرارة الفشل. و عليه؛ فعامل الوقت مهم لحسم المعركة، و نضوج التجربة. فلا تكن من الذين يتشائمون، كلما طال عليهم الأمد.
الثورة تصنع أدواتها
قسوة التجربة علمت الثوار الإعتماد على أنفسهم، بعد أن تيقنوا أن الطريق طويله، و أن النصر لا يكونُ إلا صناعة محلية. و لذلك دأبوا على صناعىة أدوات الثورة بأنفسهم؛ من بين "قناه فضائية" و "جريده الكترونية" و "كتيبه عسكرية" و "جبهة ثورية" و "فرقه فنية". و لا يقتصر الأمر على الأدوات المادية فحسب، بل تعداه لصناعة "ثقافة الثورة" و "أدبيات الثورة" ...الخ.
و لن يمر وقت طويل، حتى يصبح للثورة إعلامها، و قادتها، و نخبتها، و سياستها، و دبلوماسيتها؛ لتستكمل شروط النجاح.
الثورة تصنع قادتها
علمتنا الأيام العصيبه، أن رموز الثورة؛ ليسوا تلك "الأرجوزات"، التي صنعها إعلام المال الحرام، في أيام معدوادت. و إن لم يكن في محنة الإنقلاب من خير، إلا الكشف عن زيف تلك الرموز، و دفعها للإنزواء بعيدا، عن طريق الثورة، لكفى.
و قد تأكد لدينا أن الذين أشاعوا مقولة: أن "الثورة لا قائد" لها، (و خدعوا بها الجميع)، ما كانوا يروجون لهذا المعنى، إلا طمعا في سرقة الثورة، التي لا صاحب لها، و دس عملائهم بين صفوف قادتها. أما قادة الثورة الحقيقيون فهم موجودون من أول يوم، و تتم صناعتهم و ثقل مواهبهم الآن في ميدان العمل، و هم لا يتراجعون عن أهداف الثورة و أحلامها، رهبة من سف المعز، أو طمعا في ذهبه. و لا شك أن هؤلاء قد تمايزت صفوفهم الآن، أكثر من أي وقت مضى.
و هكذا؛ و بعد مرور الأعوام الأولى من عمر الربيع العربي؛ بات واضحا، أن قوى هذا الربيع، لم تموت، و لن تستسلم. و أنها تصنع سفينة نوح، في صحراء العرب القاحلة، ليوم تعلم أنه آت؛ لتقول فيه للشعوب العربية: اركبوا معنا، و لا تكونوا مع الغارقين.