أ. د. إبراهيم أبو محمد
 
يتميز الإنسان عن غيره من الكائنات بالعقل والإرادة الحرة ، فهو بالعقل يدرك واقعه ومكانته .
 
 وبقدر ما يتوفر له من معلومات ومعارف صحيحة بقدر وصوله إلى إدراك ذلك الواقع بشكل صحيح.
 
 والحكم بصحة هذه المعلومات أو خطئها يتوقف على أمرين اثنين :
 
الأول : مصدرها ومدى مصداقيته من ناحية.
 
والثانى : مدى مطابقتها للواقع من ناحية أخرى ، ومن ثم فالعقل هو وسيلة الإنسان في رؤية واقعه على
 
 حقيقته بعيدا عن الخداع والوهم.
 
ودور العقل هنا هو إدراك الواقع  وتشخيص وتحديد احتياجات هذا الواقع . 
 
أما الإرادة فهي  التى توفر له القدرة على تغيير هذا الواقع أو تصحيحه  وترشيده إن كا خطأ 
 
ومن ثم فهو بهذه الإرادة يرتفع بتلك المكانة أو يهبط بها.
 
وطبيعة الإنسان بما ركب فيه من ملكات وقدرات مادية ومعنوية  أنه يعلو تارة ويهبط أخرى، 
 
فهو على مستوى الفكر يعلو بالإيمان واليقين، ويهبط بالشكوك والأوهام 
 
وعلى مستوى الممارسة والتجربة  يعلو بالطاعة ويهبط بالمعصية، 
 
 هذا الحراك النفسى والجسدى المتموج بين إيجاب وسلب ، ووعي وغيبوبة يحتاج بالطبع إلى عناية 
 
خاصة تحافظ للإنسان على إنسانيته وتستبقيه رغم الذلل والسقوط أحيانا في دائرة العناية المركزة التى 
 
ترفع كفاءة جهاز المناعة فيه حتى لا يستمر في التدنى والسقوط. 
 
• ومن المعروف أن النفس البشرية مُرَكّبٌ غاية في التعقيد، وهي مستودع من الأسرار 
 
الذى لا نهاية له ، ومن ثم فقد وضعها البيان القرآني مقابل الأرض مرة بمساحتها 
 
وبطولها وعرضها وما استودع فيها من أسرار ، ومقابل الآفاق التى لا نهاية لها 
 
• قال تعالى: { وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون} " الذاريات (٢٠ـ٢١ 
 
• وقوله تعالى: { سنريهم آياتنا في الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف 
 
بريك أنه على كل شئ شهيد} " فصلت  ( ٥٣  ) 
 
• ووضع النفس البشرية مقابل الآفاق في البيان القرآني يدفع المرء إلى إعادة النظر والتأمل من جديد
 
 في الكيان الإنساني، فهذا الكيان له اعتبار آخر غير ما صورته به ثقافة المادة في حضارة الغرب ، حيث 
 
اضطربت رؤيتها حول الإنسان ، ونظرت فقط إلى الجانب الحسى في النفس الشرية ، بينما أغفلت كل 
 
جوانب الغيب فيها ، 
 
وثمة خطأ آخر وقعت فيه رؤية الثقافة الغربية بفلسفتها المادية حين فرقت بين إنسان الفلسفة وعلم
 
 النفس وعلم الإجتماع ، وبين إنسان القانون والديموقراطية ، 
 
فالأول مجرد مادة ، أو حفنة من تراب الأرض لا وزن لها ولا قيمة، بينما الثانى تمركزت حوله 
 
كل الحقوق واستجابت الديموقراطية والقانون حتى لشطحاته ورغباته وشهواته وشذوذه ونشازه  .
 
• الرؤية الإسلامية كانت أوسع مدى وأعلى أفقا وتصورا وأهدى سبيلا ، ليس فقط في التعامل مع الإنسان ،
 
 وإنما في تحليل دوافعه وبواعثه ومعرفة مواطن القوة والضعف فيه ، ومركز الصعود والهبوط ، 
 
والسمو والتدنى، ومتى وكيف يسمو ويعلو فوق الحياة فيشبه الملائكة، ومتى وكيف يهبط ويغوص 
 
في الطين ويخلد إلى الأرض حين يتبع هواه . 
 
فهو من ناحية المحتوى المادى والمعنوي يشكل بتكوينه ومحتواه البصمة الإلهية التى تشهد وتشير بألف 
 
دليل على  أنه خُلِقَ وفق إرادة عليا. 
 
•  وقد روى عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ورضى الله عنه  أن "الصورة الإنسانية هي أكبر حجج 
الله على خلقه، وهي الكتاب الذي كتبه بيده، وهي الهيكل الذي بناه بحكمته، وهي مجموع صور العالمين، 
 
وهي الشاهدة على كل غائب، وهي الحجة على كل جاحد، وهي الطريق المستقيم إلى كل خير، وهي الجسر 
 
الممدود بين الجنة والنار" (عيون مسائل النفس: ص 37 ، حسن حسن زاده )
 
     وقد نسبت إليه أبيات من الشعر قال فيها أيضا :
 
    دواؤك فـيك وما تشـعر        *        وداؤك مـنك وما تبـصــر
 
وأنت الكتاب المبيـن الذى      *         بأحرفـه يظهـر المضمـر
 
وتزعــم أنـك جـرم صـغيـر    *      وفيك انطـوى العالم الأكبر
 
•  إذًا فالإنسان في الرؤية الإسلامية كون كبير واسع الآفاق، لكنه يضطرب ويتصادم إذا أهملت طريقة 
 
تشغيله أو فرط هو أو غيره  في القوانين الحاكمة والمنظمة لعملية صيانته ولم تراع فيه الفطرة التى تشكل
 
 أحد المحاور الهامة في تكوينه النفسي والروحي ، حينئذ يضل ويضيع، وتتحول آفاقه من مدى غير محدود
 
 وميدان فسيح لممارسة الحرية والإرادة البشرية في نفع الإنسان وترقية الحياة إلى مجرد ترس في آلة يغيب
 
 فيها الشعور والحس، وتهمل فيها إشراقات الروح ،ويذهب جمال الفطرة ونقائه ويسيطر الضياع على فكره 
 
ورؤاه وتصوراته كلها،ومن ثم يتحول إلى مصدر للعطب وعنصر إفساد إن لم يكن في الكون كله فعلى الأقل
 
 في البيئة التى يعيش فيها ويؤثر في مساحتها.     
 
• وهذه الحالة عبر عنها فيلسوف الإسلام الكبير الشاعر  محمد إقبال حين قال:
 
            إنما الكافر حيران له الآفاق تيه  …..  وأرى المؤمن كونا تاهت الأكوان فيه     
 
• ولكى يبقى الإنسان  أمنا في سربه ،مطمئنا في فكره وخواطره ، مشرق النفس ألاق الجبين يحتاج إلى
 
 نوع من العناية المركزة تشمل ظاهره وباطنه وسره وعلانيته ومادته وروحه، ولم يكن لهذا الدور 
 
إلا العبادات المفروضة  بتنوعها وتوزيعها على الأوقات المختلفة ،  فهي الوسيلة التى تستنقذ الإنسان من 
 
براثن الشيطان وشروره ، وتعيده إلى جادة الصواب ونقاء الفطرة في وعيها الطبيعى وإدراكها  
 
لقيمة العلاقة التى لا يجب أبدا أن تنفصم بين المخلوق والخالق ، والمعبود والعابد مهما أخطأ العبد أو تجاوز،
 
 ومن هنا تقوم  بعض العبادات بدور المنظف والمطهر للطبيعة البشرية من جراثيم الهبوط والمعصية 
 
وفقدان المناعة.
 
•  ولما كانت المعاصى متنوعة فقد تنوعت أيضا أنواع الطاعات المطهرة منها والمكفرة لها، وكان صوم 
 
رمضان من أعجب العبادات التى فرضت على الإنسان ، فممارسته تتم بشكل غيبي لا يعرفه أو يطلع عليه 
 
إلا العبد وربه فقط ، وجزاؤه غيبي لا تعرفه حتى الملائكة، ومن هنا جاء في  الحديث القدسي: "كل عمل ابن
 
 آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" (رواه الإمام البخاري في صحيحه).  
 
• وكان منهج العبادة يساعد بعضه بعضا على طهارة الإنسان وبشكل مستمر،  كما شرح لنا رسول الله 
 
صلى الله عليه وسلم: " الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن
 
 إذا اجتنب الكبائر " وفى لفظ " مالم تغش الكبائر " رواه مسلم في الصحيح. 
 
•  إرادة الإنسان هنا لها دور فاعل في تصحيح المسار الإنساني ويجب أن تحظى تلك الإرادة في الشريعة 
 
بما يقوى عضدها ويشد من عودها ويجعلها قادرة على اتخاذ القرار الصحيح. 
 
والبيان النبوي هنا يبين لنا الفرق بين الممارسة حين تتم بشكل عفوي  لا قصد فيه ،  وبين الممارسة حين 
 
تكون من خلفها إرادة باعثة ، فالصوم مثلا قد يمارسه بعض الناس كنوع من الرياضة أو كبرنامج للريجيم 
 
يتخلص به من بعض سمنته وبعض وزنه ، فيكون له ما أراد بعيدا عن قضية الثواب والعقاب والامتثال 
 
والطاعة ، والامتثال والطاعة هنا تقتضى أن يكون الباعث على الصوم هو إيمان المكلف بالتكليف واستقباله
 
 لهذا التكليف احتسابا من المكلف لمن كلف على سبيل الطاعة والامتثال. 
 
• الإرادة الباعثة على الفعل هنا فرقت في النوايا بين عملين لهما من حيث الشكل نفس الصورة المادية ، 
 
لكن اختلاف البواعث والدوافع هنا رفع أحد العملين فجعله عبادة محضة وخالصة،  لصاحبها عند ربه 
 
ومولاه جزيل الثواب والأجر ، بينما تحول العمل الآخر والذى يحمل نفس الصورة كما وكيفا إلى عمل 
 
صاحبه غير مأجور 
 
• النموذج الموضح لهذه الصورة جاء حديثا على لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه 
 
وسلم وقد افتتح به الإمام البخاري صحيحه واعتبره العلماء من أحاديث الأصول: 
 
عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
 
 يقول : ( إنما الأعمال بالنيّات ، وإنما لكل امريء مانوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله 
 
ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ) رواه البخاري ومسلم 
 
في صحيحهما .
 
• فكأن شهر رمضان بما احتواه من عبادة الصوم يشكل للعام كله بعثا جديدا للإرادة ويقظة 
 
حية  للعزم وصحوة للتصميم على التغيير والسير في الاتجاه الصحيح . 
 
• إذًا هو شهر يبنى إرادة  المرء ويؤكد إنسانيته وتساميه فوق الغرائز عن طريق تدريبه على استخراج 
 
واستثمار طاقة الصبر الكامنة في النفس البشرية ، وكل هذه العوامل مجتمعة تشكل رافعة تصعد بالإنسان
 
 عقلا وقلبا ، روحا وجسدا ،  فكرا ووجدانا ليصل إلى مصاف الملائكة الكرام،  وليكون أهلا لجائزة 
 
لا يعرف مداها وقيمتها إلا مانحها ومعطيها يتقبلها العبد بيمينه من الله الكريم يوم يلقاه ،فينقلب إلى أهله 
 
مطمئنا بعد خوف، ومسرورا بعد حزن، ومنعما بعد شقاء وكبد ومعاناة . 
 
فطوبى لمن عرف كيف يوجه  نواياه فصام إيمانا واحتسابا ، والعاقبة عند ربك للمتقين .
 
                       مفتى عام القارة الأسترالية