د. هاني إسماعيل محمد
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

في النحو العربي دائما ما يتبع التابع المتبوع، وتتفاوت درجة الاتباع بتفاوت مكانة التابع من المتبوع، فهناك أتباع (كالنعت) لا يتركون شاردة ولا واردة إلا اتبعوا فيها متبوعهم وسيدهم، بينما هناك أتباع يكتفون باتباع أسيادهم في بعض المواقف دون الأخرى، كلٌ على سعته ورغبته.
تتجلى جدلية التابع والمتبوع في الواقع المعاصر وما فيه من أزمات وابتلاءات تفصح وتفضح عن بواطن الأمور وخفاياها، وتعري النفس من زيفها وادعاءاتها، فعلى المستوى الدولي نرى أتباع يحومون ويحلقون حول ولي نعمتهم أمريكا وطفلها المدلل دولة الاحتلال الصهيونية، وهم في ذلك يصدق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟!" [متفق عليه]
 وعلى مستوى الواقع العربي نرى الأنظمة المستبدة التي لا ترعى إلّاً ولا ذمة فتقتل شعوبها وتعذبهم وتعتقلهم ظلما وبهتانا، فيخرج الأتباع (وما أكثرهم) مؤيدين مهللين كل على قدره ومكانته، فهذا يصدر أحكاما ما أنزل الله بها من سلطان، وتتنافى مع العقل والقانون، وهم ممن يدخلون في الصنف الأول من أصناف القضاة التي صنفها النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: "القُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الجَنَّةِ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لَا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالحَقِّ فَذَلِكَ فِي الجَنَّةِ" [رواه الترمذي]
وذلك يهلل في أبواق الإعلام بهتانا وزورا، محللا جرائم الاغتصاب والقتل والحرق والتعذيب، سواء أكان محللا سياسيا أم محللا شرعيا، وقد حذرنا النبي الكريم من هذ الصنف اللئيم الذي يشتري بآيات الله ثمنا قليلا فقال: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ" [رواه الإمام أحمد].
كلٌّ يسبح بحمد سيده، بينما نجد الجمع الغفير من التابعين (المستضعفين) يسعى لتخدير مشاعره، فيلقى بالعتبى واللوم على المظلوم بدلا من الظالم، ويتخاذل عن نصرته متحججا أو متأولا، راكنا إلى نفسه المخدَّرة والمخدِّرة، الراضية المرضية عنها، راضية بالمتبوع رغبة أو رهبة ومرضية عنها من قِبَله لسكونها واستسلامها واستئناسها.
في الحقيقة كان المرء مصدوما عندما رأيت هؤلاء الجمع الغفير من التابعين والمستضعفين يظهرون الشماتة والفرحة أو على أقل تقدير يصمتون صمت جدهم الأكبر أبي الهول مما حدث ويحدث لبني وطنهم ودينهم في مصر على يد الخونة والقتلة من المنقلبين، بالرغم أن الجميع في الهم سواء.
لكن بعد السكرة تذكرت هؤلاء وموقفهم من أولى القبلة وثالث الحرمين مسرى النبي، وكيف كانوا كالببغاوات يدعمون ويناصرون العدو المغتصب لمقدساتهم والمنتهك لحرماتهم بصمتهم (في أحسن حال) أوبتبريراتهم الممجوجة ودعاويهم المكذوبة، أيقنت أن من فرط في قبلته ومسرى نبيه فليس عنده أدنى مشكلة أن يفرط في ابن وطنه ودينه، فمن سكت عن اغتصاب الأقصى ما أيسر عليه أن يسكت عن غلق أي مسجد ولو كان أشهر مسجد في مصر كلها الذي يؤمه المسافر والمقيم، وما أيسر عليه أن يكذّب نفسه ويصدق متبوعه سيده وولي نعمته، رغبة في تخدير الضمير الميت، وتطمينا للنفس المخدّرة.
يحدثنا القرآن الكريم عن هؤلاء التابعين والمستضعفين، وما يجري بينهم وبين أسيادهم يوم القيامة من حوار يشهد بدهاء الأسياد وغباء الأتباع، يصوره القرآن الكريم تصويرا بليغا وجليا، ينادي الله تعالى الملك الواحد القهار، في هذه اللحظة «يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ» [المعارج: 11-14]
ينادي الملك الديان: «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ *» [الصافات]
يجتمع فرعون وهامان وجنودهم ومطبليهم ومزمريهم وتابعيهم ومتبعويهم يجتمع السيد والتابع، والقوي والمستضعف، يجتمع أهل الباطل في خندق واحد، كما كانوا في الدنيا في خندق الباطل، لأنهم مسئولون عما أجرموا في حق المظلومين من المقتولين والمعتقلين والمغتصبات والمغتصبين.
يسخر الله منهم – كما كانوا يسخرون من أهل الحق – «مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ» كما كنتم تتناصرون في الدنيا وتستعينوا ببعضكم، ومنكم من كان يتطوع رغبة لا رهبة في نصرة الباطل لحقد كامن في قلبه، وحسد جاثم في نفسه، يأتي الجواب: «بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ» داخرون صاغرون، قد تستدعي هذه الصورة صورة أهل الحق وهم مغلوبون في الدنيا إلا أن أهل الحق لا يعرفون الخنوع أو الخضوع فهم في وقت الشدة كالأسود يقرعون الخطوب لا يرهبهم حكم جائر أو قتل غاشم، بينما أهل الباطل في الدنيا والآخرة لا يعرفون إلا الخنوع والخضوع ولا يعيشون إلا في مذلة واستسلام، طوعا أو كرها.
وينقلنا القرآن الكريم إلى حوار جانبي بين هؤلاء الطواغيت قادة ومقودين «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ» فيبادر الأتباع إلى أسيادهم بالسؤال: «قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ» فيجبوهم بصراحة غير معهودة فيهم، فهم اليوم لا ينتظرون منهم تأييدا أو دعما أو تصفيقا وتطبيلا، «قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ» لا تكذبوا على أنفسكم وتخادعوها، فأنتم لم تستجيبوا لنا إلا لأنكم فاقدي الإيمان، ففي كل نفس منكم طاغوت يؤلهه ويعبده، قد يكون طاغوت المال، أو طاغوت الجاه والسلطان، أو طاغوت الحقد والحسد، أو ... أو...ولكنه قابع في أنفسكم ومحرك لها وما كان لنا عليكم من سلطان يجبركم ويرغمكم على ما فعلتم واقترفتم في حق أنفسكم – قبل أن يكون في حق إخوانكم.
ولأن الأسياد دائما يعرفون حقائق الأمور إلا إنهم يزيفونها لمصالحهم وأغراضهم الدنيوية، ولكن في الآخرة عندما تفنى الدنيا وزينتها يعترفون بالحقائق، أو قل لا يزيفونها، فلا حاجة لتزيفها فضلا عن اليوم يوم حساب، على خلاف الأتباع الذين دائما ما يسعون لشماعة يعلقون عليها مواقفهم المخذية، لذا يعلنوها صراحة فيقولون: «فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ»
بعد هذا الاعتراف الدامغ يؤكد الله تعالى على أنهم في العذاب مشتركون، كما كانوا في إجرامهم في الدنيا مشتركون «فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ» ويسوق رب العالمين أعدل العادلين حيثيات الحكم الرباني فيقول: «إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ * بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ * إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»
لا يظن هؤلاء الأتباع أن ما يقترفونه من جرم قبيح وفعل شنيع سيمر مرار الكرام، لا وألف لا، فالنفوس الضعيفة التي لا تقوى على مجابهة الظلم، فتستسلم وتنساق إلى غوايات الظالمين مصيرها جهنم وبئس المصير جزاء لما كانوا يعملون، إن كانوا لأنفسهم خادعين فإنهم لها أيضا هالكين.
النجاةَ النجاةَ، ولا نجاة إلا بنصرة الحق، والتبرؤ من الباطل.