القصف المتبادل بين الفرقاء المتعاركين في مصر ليس سياسيا فقط، ولكنه لغوي أيضا، أعني أننا لسنا بصدد صراع حول الأفكار ولكنه في ذات الوقت صراع على العناوين والأوصاف، الأمر الذي أدى إلى ابتذال مصطلحات كثيرة، وانتهى بتمييع المعاني أو اغتيالها، فحين نقرأ في العناوين الرئيسية للصفحة الأولى من جريدة الأهرام أمس 24/6 أن الاعتصامات استمرت بميدان التحرير وأن «الأغلبية» الصامتة تظاهرت أمام المنصة في مدينة نصر فأول ما يتبادر إلى الذهن أن الذين في ميدان التحرير يعبرون عن الأقلية، وأن الأغلبية هي تلك التي تظاهرت أمام المنصة.
وإذا انتبهت إلى أن الذين خرجوا إلى ميدان التحرير ينتمون إلى مختلف القوى الوطنية التي تعارض الإعلان الدستوري المكمل وتعتبره انقلابا على الثورة، وأغلبهم يؤيدون الدكتور محمد مرسي، في حين أن الذين تظاهروا أمام المنصة من مؤيدي مبارك والفريق شفيق والمجلس العسكري والمتحمسين للإعلان الدستوري وحل مجلس الشعب، حينذاك ستكتشف أنك وقعت في كمين منصوب صنعته اللغة بمنتهى اللطافة والمكر، ذلك أن الرسالة التي يتلقاها المواطن البريء في هذه الحالة، هي أن الأغلبية الصامتة في مصر هي التي تقف إلى جانب مبارك وشفيق والمجلس العسكري وتؤيد الانقلاب الذي حدث. الأمر الذي يعني أننا بصدد رأي متحيز وليس خبرا محايدا. إن شئت فقل إنه خبر «مفخخ» ظاهره بريء وحقيقته غير ذلك.
خذ أيضا التقرير الذي أبرزته صحيفة «المصري اليوم» تحت عنوان عريض باللون الأحمر يقول: قوى ليبرالية تؤسس جبهة مدنية لحماية مصر من الحكم باسم الدين أو عودة النظام السابق، ربما لاحظت أن العنوان استخدم بعض المصطلحات الرنانة التي تداولتها الألسنة هذه الأيام. إذ يتحدث عن قوى «ليبرالية» وأن الجبهة «مدنية» هدفها معارضة الحكم باسم الدين أو عودة النظام السابق. وإن دققت في ملابسات التقرير وتحريت خلفياته ستلاحظ ما يلي:
*إن الصحيفة ذكرت أن الذين شاركوا في اللقاء يمثلون جميع القوى والرموز الليبرالية ورؤساء الأحزاب» في حين أنه كان منبرا لحزب المصريين الأحرار ومؤسسه المهندس نجيب ساويرس وقد تحدث فيه أحد القياديين في حزب التجمع المتحالف مع المصريين الأحرار والرئيس الشرفي لحزب الجبهة الديمقراطية وثلاثة من النشطاء. واعتبرت الصحيفة أن هؤلاء يمثلون «جميع القوى والرموز السياسية ورؤساء الأحزاب».
* إن اللقاء كان له هدفان، الأول هو الرد على الإعلان الذي تم في اليوم السابق عن تشكيل جبهة وطنية لإدارة الأزمة وقفت إلى جانب الدكتور محمد مرسي في مواجهة إجراءات وقرارات المجلس العسكري، خصوصا بعدما قدم المرشح الرئاسي عدة تعهدات استجابت لمطالب بقية القوى الوطنية، الهدف الثاني كان تشديد الهجوم على جماعة الإخوان لترجيح كفة منافسة الفريق شفيق، في حين كان مصطلح الجبهة المدنية غطاء لستر ذلك الموقف.
*إن القيادي «الليبرالي» المهندس نجيب ساويرس مارس حقه المشروع في الاختيار وأعلن انحيازه واصطفاف حزبه إلى جانب الفريق شفيق، لكن ليبراليته لم تحتمل الرأي الآخر في برامج قناة «أو تي في» التي يملكها. الأمر الذي دفع بعض مقدمي البرامج اللامعين إلى الاحتجاب والتوقف عن العمل «يسري فوده مثلا». كما أن تعليماته قضت بمنع أي أصوات ناقدة للمجلس العسكري أو الفريق شفيق من الظهور على شاشات القناة، وهو ما تجلى في منع ظهور النائب والمحامي عصام سلطان وزميلنا الصحفي أيمن الصياد، حيث دعا كل منهما إلى المشاركة في بعض البرامج، ثم تم الاعتذار لهما قبل ساعة من الموعد بحجج مفتعلة.
الخلاصة إننا في هذا النموذج نجد أن الصحيفة التي يشارك في أسهمها المهندس ساويرس تحدثت عن اجتماع متواضع دعا إليه الرجل وجرى النفخ فيه من خلال اللغة للإيحاء بأنه يمثل جميع القوى والأحزاب. ومن قبيل التدليس اللغوي قيل لنا إنها قوى «ليبرالية» في حين أن ممارسات بعض شخوصها في حقيقة الأمر إقصائية واستئصالية، ناهيك عن أن وصفهما بأنها «قوى» فيه قدر كبير من المبالغة، إلا إذا كان المقصود في هذه الحالة هو القوة المالية للمهندس نجيب ساويرس وعائلته.
أكاد أسمع صوت قارئ خبيث يسأل: لماذا ذكرت هذين المثلين وتجاهلت بيانات المجلس العسكري التي حفلت بالنماذج المماثلة التي تم فيها ابتذال المصطلحات واغتيال المعاني، وردي على السؤال أن البيانات أخذت حقها من النقد والفضح، حين دعت إلى احترام القانون وانتهكته وحين تحدثت عن احترام مؤسسات الدولة وأهانتها بالدبابة التي وضعت أمام مجلس الشعب، وحين تعهد المجلس بتسليم السلطة إلى المدنيين في 30 يونيو ثم فاجأنا بإجهاض ذلك الحلم.
عندي سبب آخر لعدم الاستطراد في رصد ثغرات الإعلان الدستوري، هو أنني استنفدت الحيز المتاح، ولذا تعين التوقف عن الكلام المباح!