23/03/2010
*د.عصام العريان
الآليات والوسائل "الأحزاب" (أ)
البناء الديمقراطي يقوم على عدة آليات ووسائل؛ أهمها: الدستور، والبرلمان، وتعدُّد الأحزاب، والانتخابات الحرة، والرأي العام القويّ، والمجتمع الأهلي (المدني النشيط).
وكما يتطلَّب "تداول السلطة"- الذي هو جوهر النظام الديمقراطي- وجودَ "الدستور" الذي يُحدِّد القيم والمبادئ الأساسية ومقومات المجتمع التي يتفق عليها الأغلبية ولا تهدر حقوق الأقليات الدينية والعرقية والجهوية، وينظم "الدستور" أيضًا سلطات الدولة الرئيسية، ويحدِّد العلاقة بينها، ويحقق التوازن المنشود حتى لا تطغى واحدةٌ على أخرى؛ فإن هذا الهدف الرئيسي "تداول السلطة" يتطلَّب أيضًا "تعدديةً حزبيةً سياسيةً" لتطرح برامجها على الشعب والأمة، ويختار الناس من بينها لفترة محدودة حزبًا قادرًا على تنفيذ برنامجه السياسي والتنموي، وفي نهاية تلك الفترة يتم العودة مرةً أخرى إلى "صناديق الانتخابات"؛ ليحاسب الشعب الحزب الحاكم على أدائه، ويحكم على قدراته؛ فإما أن يجدد له مدةً أخرى أو يختار غيره لفشله، أو في حالة نجاحه يخشى من طغيان حزب واحد وتحوُّله إلى ديكتاتورية باطشة كما حدث في "بريطانيا" مع حزب المحافظين بقيادة "تاتشر" في ثمانينيات القرن الماضي، وكذلك يتم إعادة انتخاب الرئيس في النظم الجمهورية لمدة أخرى جديدة وليس لمدد متطاولة؛ بسبب الخوف من حجم السلطات التي يتمتع بها أيُّ رئيس في نظام جمهوري، مهما كان التوازن بينه وبين "البرلمان" أو "القضاء" ولو كان النظام رئاسيًّا برلمانيًّا فإن العرف الجاري في النظم الديمقراطية الغربية هو عدم التجديد للرئيس لأكثر من فترتين رئاسيتين؛ لكي لا يتحوَّل الرئيس إلى ديكتاتور.
ويتطلَّب النظام الديمقراطي وجود "البرلمان" الذي يتابع في جلساته الرقابةَ على الحكومة، وسنّ التشريعات الضرورية لتنظيم مرافق الدولة، ومناقشة خطة التنمية وإقرار الميزانية العامة للدولة.
وبين يدي تناول قضية "الأحزاب" أودُّ أن أبيِّن أن النماذج الديمقراطية متعددةٌ في العالم، وليست على نمط واحد، وأننا نريد أن نحقق نموذجًا ومثالاً للتطبيق الديمقراطي في البلاد الإسلامية، يتمتع بشرطين أساسيين:
1- الترسيخ الكامل للقيم والمبادئ والقواعد التي تشترك كلُّ النظم الديمقراطية فيها، وتحديد الثقافة الديمقراطية وترسيخ مبادئ الشورى، وهي ما شرحناه في المجموعة الأولى التي نشرتها "الدستور" وعديد من المواقع الإلكترونية خريف عام 2007م.
2- الاستفادة التامة بالآليات والوسائل التي أبدعتها شعوب العالم في تطبيقاتها المتعددة للديمقراطية، مع الأخذ في الاعتبار بطبيعة مجتمعاتنا الإسلامية والثقافة السائدة فيها.
وكذلك يهمنا أن نستفيد بكل نقد موضوعي وبحوث أكاديمية وتطبيقية، جرت على مسيرة الديمقراطية في الغرب والشرق، ولعل في تجارب دول مثل "الهند" و"روسيا" و"الصين" التي تطبِّق نماذجَ متنوعةً آخذةً في الاعتبار بأمرين:
- الأول: التطور التاريخي لتلك الأمم والشعوب.
- الثاني: صعوبة الانتقال من حالٍ إلى حالٍ، وما يصاحب ذلك من إشكاليات.. وطبعًا سيقول لنا البعض- مفتخرًا- بالانتقال الديمقراطي في أوروبا الشرقية في بلاد مثل "أوكرانيا" و"رومانيا" وغيرها، إلا أن التجارب بعد سنين أثبتت صحةَ موقف دول كالهند والصين، في الانتقال الهادئ والتطور الطبيعي، بعيدًا عن تدخلات خارجية لها مآربُ أخرى، ولنا في روسيا "يلتسن" ثم تصحيح "بوتين" العبرة في أهمية منع التدخلات الخارجية، وترك التطور الطبيعي يأخذ مساره الهادئ.
يقول الشيخ العلاَّمة القرضاوي: "الأحزاب" في السياسية كالمذاهب في الفقه، وهذه كلمة بليغة تلخِّص المسألة كلها؛ فإذا كان الاعتراف بالتعددية في الآراء والحرية في الأفكار؛ هو المبدأ الذي استندت إليه فكرة التعددية الحزبية السياسية، وإذا كان "التنوع في الخَلْق والخُلَق والرأي" هو القيمة الأساسية والدعامة الرئيسية التي يقوم عليها البناء الحزبي، وإذا كان "الحق في الاختلاف" والحق في طرح برامج عامة للإصلاح والنهضة في ظل القيم والمقومات الأساسية للمجتمع هو الأساس الذي يجعل من حرية الاختيار بين تلك الآراء والبرامج حقًّا مشروعًا للجماهير، وإذا كان الأصل الذي لا يمكن الاستهانة به هو أن بشرًا ما أو مجموعة ما من البشر لا يمكنها ادِّعاء امتلاك الصواب أو الحق المطلق كما يقول الشافعي رضي الله عنه: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، وكما قال أستاذه الإمام مالك رضي الله عنه: "كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا المقام،" ويشير إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما أعلن من قبلهما الإمام أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه: "هذا ما قدرنا عليه؛ فمن جاءنا بأصوب منه قبلناه".. فإن إغفال "التعددية السياسية والحزبية" والحطَّ من قدرها والتهوين من شأنها والاكتفاء بذكر مساوئها وعيوب يُعدُّ من الخطأ الشديد وعدم الإنصاف.
لقد عرفت الأمة الإسلامية منذ القرن الأول الهجري التعددية الفكرية والفقهية والمدارس السنية التي عاش منها حتى الآن أربعة مشهورة وغير المهجورة، واستقرَّ في ضمير المجموع العام للمسلمين الحقُّ في الاختلاف بين أئمة المذاهب: "أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد"، ومعهم "الأوزاعي وسفيان والليث وابن حزم" وغيرهم رضي الله عنهم جميعًا، ولكن على الجانب الآخر كان التناحر السياسي والقتال بين المذاهب السياسية والعقائدية هو السمة السائدة في تاريخنا الإسلامي، وهو ما لا ينكره أحد.
ومع أن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أقرَّ الحقَّ في الاختلاف السياسي وفي الرأي حتى في ميادين القتال، كما أقرَّ بالحق في الاختلاف الفقهي في ميادين العبادة المحضة، وكلها عبادة وعبودية لله، إلا أن المسلمين من بعده لم يستطيعوا أن ينظِّموا الحقَّ في الاختلاف السياسي وتداول السلطة سلميًّا، كما نظموا باقتدار الحقَّ في الاختلاف الفقهي في كافة فروع الفقه، بما فيها الجهاد والحدود والجنايات والمعاملات؛ ما انعكس على القضاء بين الناس لفترات طويلة حتى تمَّ إلزام القضاة حديثًا بمدونة واحدة للأحكام؛ ما يستوجب من العلماء والمفكِّرين النظر بعناية إلى تلك المسألة وتداعياتها الخطيرة على تاريخ المسلمين، وضرورة التصدِّي لها بحسم؛ حتى لا نعيد تكرار معاركنا ومشكلاتنا التي عايشناها طوال 14 قرنًا من الزمان.
لقد كان لوجود الرسول صلى الله عليه وسلم أكبر الأثر في احترام الحق في الاختلاف واحترام طرح وجهات النظر المختلفة، رغم أنه نبيٌّ يوحى إليه من السماء؛ ما يعني أننا كنا الأقدر على بناء البدايات الديمقراطية قبل أوروبا وأثينا وغيرهما.
في عصر النبوة الأولى واجه النبي العظيم قضايا سياسيةً تتعلق بالدفاع والعلاقات الدولية- إن صح التعبير- أو العلاقات الخارجية على الأصح، واستمع إلى وجهات النظر المتعددة، واختار من بينها ما خالف رأيه الشخصي عندما علم المسلمون من الصحابة أن الأمر ليس وحيًا من السماء وإنما هو الرأي والحرب والمكيدة.
في غزوة بدر نزل الرسول صلى الله عليه وسلم على رأي الحباب بن المنذر في ميدان المعركة واختار رأي "أبي بكر" في الأسرى في بدر، حتى عاتبه ربُّه في القرآن، وفي غزوة أحد نزل على رأي الشباب الذين لم يشهدوا بدرًا، وفي غزوة الخندق نزل على رأي السعديْن فيما طرحه من رأي بتسليم ثلث ثمار المدينة للمشركين حتى يرجعوا عن المدينة بعد أن اشتدَّ الحصار، وكان يميل إلى ذلك... إلخ.
فما الذي حدث بعد وفاة الرسول وما الذي حوَّل تاريخنا إلى تعددية في الفقه والقضاء ومعارك في السياسة والسلطان؟!
الذي حدث هو أن غياب الرسول صلى الله عليه وسلم أدَّى إلى وجود أقران متساوين، وبحكمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تمَّ حسم مسألة الخلافة في سقيفة بني ساعدة بتولِّي أبي بكر الصديق رضي الله عنه أمر المسلمين، وهو الذي عهد بعد وفاته إلى عمر رضي الله عنه، وبدوره اختار ستةً كمؤسسة شورية لاختيار خليفة له، وكان يمكن أن تكون تلك هي نقطة البداية.
ولم تتطور المسألة بعد ذلك إلى قواعد واضحة محددة، ولم يجتهد المسلمون وكبار الصحابة في أمر من أخطر الأمور؛ لعوامل عديدة، منها: انتشار الفتوحات منذ عهد عمر، وتوسعها في عصر عثمان رضي الله عنهم جميعًا، فكان غالب الأئمة من الصحابة بعد وفاة عمر في الأمصار، وكان في حياته يمنعهم من مغادرة المدينة المنورة عاصمة الخلافة، ومنها قلة النصوص القرآنية والنبوية في المسألة؛ ما كان يستدعي الاجتهاد الواسع، على خلاف بقية الأمور المتعلقة بالعبادات والبيوع والزواج والطلاق، وبعض المعاملات التي رواها الصحابة؛ لكثرة الحاجة إليها، ثم ازدحمت الصحائف بنصوصها، ومنها عدم الاحتكاك السريع بالأمم الأخرى، والقدرة على النقل عنها، كما حدث بعد استقرار الفتوحات، بل كان الأصل في النصف قرن الأول هو الصراع والصدام مع الفرس ثم الروم، فتأخرت الاستفادة بتجاربهم إلى أن استقرَّت الخلافة السياسية على يد بني أمية على ولاية العهد للأبناء والعائلة فقط وليس للأصلح، وتعطَّلت مؤسسة الشورى التي أرسى بداياتها عمر الفاروق رضي الله عنه.
وسرعان ما نشب الصراع بعد مقتل ذي النورين "عثمان بن عفان" رضي الله عنه، ثم نشأ نزاع بين علي و"معاوية" رضي الله عنهم، ثم مع الخوارج، ثم احتدم الصراع بين آل البيت رضي الله عنهم والخلفاء من بني أمية، واستمر الصراع طويلاً، وساد منطق "خشية الفتنة" الذي أدَّى إلى الرضا بالأمر الواقع إلى يومنا هذا؛ لأن كمَّ الدماء التي سالت لا يتحمَّله العقل الآن؛ حيث أثَّرت الفتنة في نفوس المسلمين وفي عقول الفقهاء؛ فأغلقوا باب الاجتهاد في تلك المسألة، وكان حكم الشريعة سائدًا في بقية الأمور، فاكتفوا بالإنكار الفردي وحمايته والنصح الفردي وشرعيته، ولم يتطرقوا إلى تنظيم حق الاختلاف السياسي للمجموعات سلميًّا.
وكانت النتيجة أن الفقهاء العظام كالأئمة الأربعة الذين ملئوا الدنيا علمًا واجتهدوا؛ لم يتركوا لنا إلا أقل القليل في تراثهم حول ذلك الأمر، وهو الإقرار بالقواعد العامة، كالشورى والرضا في عقد البيعة دون تفصيل، بل كان باب الخروج على الحاكم هو الأغلب في كتبهم تلاميذهم دون البحث عن أسباب الخروج، وخاصةً الاستبداد بالسلطة والتشبُّث بالحكم.
وهذا ما يدعونا اليوم ونحن نستقبل النصف الثاني من القرن الخامس عشر الهجري بعد عقد ونيِّف إلى أن نتداعى كمسلمين إلى بحث تلك المسألة وما يتعلق بها من إشكاليات؛ لعلنا نجد حلاًّ يرضى به الله عنا ونحقق به مصالح المسلمين.
وأحد أهم دعائم ذلك الحل الشورى أو الديمقراطي هو السماح بتعدُّد الأحزاب السياسية التي تتنافس سلميًّا على تداول السلطة برضا الجماهير في انتخابات دورية في ظل دولة القانون التي يحكمها دستور واضح يحدِّد مقومات المجتمع الأساسية، وأن يتم ذلك الحوار بين الأحزاب في برلمان ينتخبه المسلمون والشعب من المواطنين كافة، وكون هناك رقابة سلمية على الحاكم والحكومات حتى لا يلجأ المتمردون إلى حمل السلاح ضد سلطان غاشم، ونعود لنكرِّر مقولة "سلطان غشوم ولا فتنة تدوم".
____________
* عضو مكتب الإرشاد.