في جريمة عمالية جديدة تكشف مدى التغول الوحشي لرجال الأعمال المسنودين بسلطة القمع، أقدمت إدارة مجموعة "النساجون الشرقيون" بالعاشر من رمضان على فصل نحو 70 عاملاً فصلاً تعسفياً وانتقامياً، لا لذنب اقترفوه سوى ممارسة حقهم البسيط في "الشكوى" عبر الفضاء الافتراضي.

 

هذه المذبحة، التي طالت أرزاق عشرات الأسر، لم تكن مجرد إجراء إداري، بل عملية "تأديب" بوليسية ممنهجة، استخدمت فيها الإدارة أساليب التجسس والترهيب بمساعدة ضباط شرطة سابقين، لتؤكد أن مصانع مصر لم تعد قلاعاً للإنتاج، بل تحولت إلى "ثكنات عمالية" يُحاسب فيها العامل على أنفاسه وكلماته، تحت سمع وبصر "حكومة الانقلاب" التي تخلت تماماً عن دورها في حماية الطرف الأضعف، وتركت العمال فريسة لتحالف المال والسلطة.

 

التفاصيل التي تكشفت عن الواقعة صادمة بكل المقاييس؛ تحقيقات صورية، تفتيش ذاتي مهين، وتهديدات بالملاحقة الأمنية ، في مشهد يعيد للأذهان أسوأ حقب الاستبداد. ورغم أن الشركة، التي تعد واحدة من عمالقة الصناعة وتمتلك فروعاً حول العالم، تحقق أرباحاً مليارية ، إلا أنها استكثرت على عمالها المطالبة بفتات زيادات لمواجهة الغلاء، وفضلت التنكيل بهم عبر اختراق خصوصيتهم وملاحقتهم حتى في "جروبات فيسبوك" المغلقة، في رسالة ترهيب واضحة لكل من يفكر في الاعتراض أو المطالبة بحقه.

 

التجسس والاختراق: حينما تتحول الإدارة إلى "جهاز أمن دولة"

 

لم تكتفِ إدارة "النساجون الشرقيون" بدورها كرب عمل، بل تقمصت دور المخبر الأمني بامتياز. فبحسب شهادات العمال وبيانات المنظمات الحقوقية، لجأت الشركة إلى وسائل غير قانونية لاختراق حسابات العمال الشخصية والتعرف على هوياتهم رغم استخدامهم أسماء مستعارة. هذا السلوك، الذي وصفته المفوضية المصرية للحقوق والحريات بأنه "انتهاكات جسيمة شملت التجسس"، يكشف عن عقلية أمنية تحكم المؤسسات الاقتصادية.

 

وفي تعليق على هذه الممارسات، يرى الناشط العمالي والقيادي النقابي سعود عمر أن ما حدث في "النساجون الشرقيون" هو تجسيد لسياسة "تكميم الأفواه" التي انتقلت من المجال السياسي إلى المجال العمالي. ويؤكد عمر أن استخدام تقنيات التجسس لملاحقة عمال يطالبون بزيادة أجورهم هو "انحطاط أخلاقي وقانوني"، مشيراً إلى أن هذه الشركات تستغل غياب الرقابة الحكومية وتواطؤ وزارة العمل لتمارس أبشع أنواع القمع.

 

ويضيف عمر: "النظام الحالي منح الضوء الأخضر لرجال الأعمال ليفعلوا ما يشاؤون بالعمال، طالما أن عجلة الإنتاج تدور ولو على جثث حقوقهم، وما حدث هو رسالة إرهاب لكل عامل يفكر في الحديث عن معاناته".

 

تواطؤ وزارة العمل: "شاهد زور" في مسرحية الفصل التعسفي

 

تتجلى "الخيانة" الحكومية للعمال في أوضح صورها من خلال الصمت المريب لوزارة العمل ومكاتبها المختصة. فبدلاً من أن تكون هذه الجهات حائط صد يحمي العمال من بطش الإدارة، تحولت إلى أدوات لشرعنة الظلم. محامي الشركة لم يكتفِ بالفصل، بل استبق الأحداث بتقديم بلاغات كيدية تتهم العمال بـ"التحريض على الإضراب والتخريب" ، وهي التهمة الجاهزة والمعلبة التي يستخدمها النظام لسحق أي حراك عمالي.

 

وهنا يوجه المحامي الحقوقي والمهتم بالشأن العمالي هيثم محمدين انتقادات لاذعة للحكومة، معتبراً أن وزارة العمل باتت "فرعاً من فروع إدارات الموارد البشرية للشركات الكبرى". ويشير محمدين إلى أن تقاعس الوزارة عن التحقيق في شكاوى العمال وتعرضهم للإهانات والتحقيقات المهينة داخل المصنع، هو مشاركة فعلية في الجريمة.

 

ويؤكد أن النظام القانوني الحالي، الذي يمنع الإضراب ويجرم الاعتراض، هو الذي خلق هذه البيئة التي يستأسد فيها صاحب العمل. ويضيف: "عندما يكون الخصم هو الحكم، وعندما يدير لواءات سابقون شؤون العمال في الشركات، فلا تنتظر عدالة ولا قانوناً، بل انتظر مقصلة تُنصب لكل من يرفع صوته".

 

"إرهاب الأرزاق": ضباط سابقون يديرون معركة التجويع

 

لعل الأخطر في هذه الواقعة هو ظهور دور "ضباط الشرطة السابقين" الذين يعملون كمسؤولين إداريين داخل الشركة، والذين مارسوا الترهيب المباشر لإجبار العمال على عدم اللجوء للقضاء. هذا التداخل الفج بين العقلية الأمنية والإدارة المدنية حول المصانع إلى ثكنات، حيث يُعامل العامل كـ"مشتبه به" وليس كشريك في الإنتاج.

 

ويرى كمال عباس، المنسق العام لدار الخدمات النقابية والعمالية، أن هذا النمط من الإدارة يعكس خوف النظام ورجال الأعمال من أي تنظيم عمالي مستقل. ويشير عباس إلى أن المطالب التي فصل العمال بسببها كانت مشروعة وبسيطة للغاية، وتتعلق بزيادة الرواتب لمواجهة التضخم الجنوني، حيث طالبوا بزيادة لا تقل عن 2500 جنيه. لكن الإدارة، وبدلاً من التفاوض، اختارت "الحل الأمني" وقطع الأرزاق.

 

ويحذر عباس من أن سياسة "التجويع والفصل" لن تولد إلا الانفجار، مؤكداً أن العمال الذين خسروا وظائفهم بسبب "بوست فيسبوك" لن يصمتوا طويلاً، وأن محاولات كسر إرادتهم ستتحول قريباً إلى وقود لغضب عمالي واسع قد لا يستطيع أحد السيطرة عليه.

 

ختاماً، إن فصل 70 عاملاً من "النساجون الشرقيون" ليس مجرد حادثة فردية، بل هو نموذج صارخ لكيفية إدارة ملف العمل في ظل "جمهورية الخوف". فبينما تتفاخر الشركة بتصدير منتجاتها لـ 130 دولة، فإنها تصدر القمع والظلم لعمالها في الداخل، بدم بارد وبمباركة كاملة من نظام يرى في حقوق العمال "جريمة" تستوجب العقاب.