في حادثة لم تكن مجرد اختراق أمني روتيني، بل "هزة ارتدادية" لواقع أمريكي يزداد انقساماً وعنفاً، تحولت شوارع واشنطن –التي يُفترض أنها الحصن الأكثر أماناً– إلى ساحة حرب مصغرة. إطلاق النار الذي استهدف عنصرين من الحرس الوطني على بعد خطوات من البيت الأبيض، وما تبعه من ردود فعل رئاسية عسكرية، يفتح الباب واسعاً أمام السؤال الأخطر الذي يتردد همساً وعلناً في الأوساط الأمريكية: هل نحن أمام شرارة حرب أهلية جديدة، أم أنها مجرد "مناوشات" في دولة تعيش على صفيح ساخن؟
الرئيس دونالد ترامب لم يتأخر في توصيف المشهد بـ"الإرهاب"، ووزير الدفاع أعلن عن نشر مئات الجنود الإضافيين، لتبدو واشنطن وكأنها تستعد لمعركة داخلية، وليست عاصمة لقوة عظمى تدير العالم.
تفاصيل "الكمين" الدموي: 10 ثواني من الرعب
وفقاً للرواية الرسمية التي أعلنتها شرطة واشنطن العاصمة، لم يكن الحادث عشوائياً. ففي تمام الساعة 2:15 من بعد ظهر الأربعاء (عشية عيد الشكر)، تعرض جنديان من "الحرس الوطني لولاية ويست فرجينيا" لما وصفه المسؤولون بـ"كمين وحشي" ومخطط له.
المشتبه به، الذي تم تعريفه لاحقاً بأنه مواطن أفغاني دخل الولايات المتحدة عام 2021، باغت الجنود عند تقاطع شارعي 17 و I، وأطلق النار من مسافة قريبة جداً (Point blank range). الهجوم لم يستغرق سوى لحظات، لكن نتيجته كانت دموية: إصابة الجنديين بجروح حرجة في الرأس، قبل أن يتدخل زملاء لهم ويُسقطوا المهاجم بأربع رصاصات.
اللافت في التفاصيل هو "رمزية" المكان والتوقيت؛ فالهجوم وقع في قلب المنطقة الفيدرالية المحصنة، وفي وضح النهار، مما يشير إلى جرأة غير مسبوقة أو يأس كامل، وكأن الرسالة هي: "لا أحد في مأمن، حتى حراس الرئيس".
ترامب: "إرهاب" و"فاتورة باهظة"
كعادته، لم يفوّت الرئيس ترامب الفرصة لتحويل الحدث إلى منصة سياسية حادة. في خطاب متلفز، وصف الهجوم بأنه "عمل شرير، وكراهية، وإرهاب"، متعهداً بأن يدفع الجاني "ثمناً باهظاً جداً".
لكن الأخطر في خطاب ترامب هو الربط الفوري بين هوية المهاجم (الأفغاني) وسياسات الهجرة لإدارة بايدن السابقة. فقد استغل الحادثة ليأمر بـ"تعليق فوري" لجميع معاملات الهجرة الخاصة بالأفغان، في خطوة يراها أنصاره "حماية للأمن القومي"، بينما يراها خصومه "عقاباً جماعياً" وتكريساً لخطاب الكراهية الذي يغذي الانقسام.
ترامب لا يخاطب هنا العقل، بل يخاطب "الخوف" لدى المواطن الأمريكي، معززاً سرديته بأن "العدو في الداخل"، وهو ما يصب الزيت على نار الاستقطاب الداخلي.
عسكرة واشنطن: 500 جندي إضافي.. لماذا؟
القرار الأكثر إثارة للقلق جاء من البنتاغون. وزير الدفاع "بيت هيغسيت" أعلن أن ترامب طلب نشر 500 جندي إضافي من الحرس الوطني في العاصمة. هذا القرار يطرح تساؤلات مشروعة: هل هذا العدد لمواجهة "ذئب منفرد"؟ أم أن الإدارة الأمريكية تمتلك معلومات استخباراتية عن تهديدات أوسع؟
نشر القوات العسكرية في الشوارع يحول واشنطن تدريجياً إلى "ثكنة عسكرية". ويرى مراقبون أن هذا الإجراء يتجاوز الرد الأمني التقليدي، ليصبح رسالة سياسية للداخل الأمريكي: "السلطة مستعدة لاستخدام القوة". في المقابل، يثير هذا الانتشار حفيظة الليبراليين وسكان العاصمة الذين يرون فيه "احتلالاً" مقنعاً وتجاوزاً للصلاحيات الدستورية، خاصة في ظل وجود حكم قضائي سابق شكك في قانونية نشر الحرس الوطني بهذه الطريقة.
بوادر الحرب الأهلية: انقسام مجتمعي وعنف سياسي
هل تبالغ التقارير التي تتحدث عن "حرب أهلية"؟ الواقع يقول عكس ذلك. فالحادثة لا يمكن فصلها عن سياق أعم:
انهيار الثقة: المؤسسات الأمنية والعسكرية، التي كانت يوماً محل إجماع، باتت طرفاً في الصراع السياسي. الجمهوريون يرونها أداة لفرض النظام، والديمقراطيون يرونها أداة قمع بيد ترامب.
العنف المتبادل: الحادثة ستغذي حتماً تيارات اليمين المتطرف والميليشيات المسلحة التي تؤمن بضرورة "الدفاع الذاتي" في ظل ما يرونه "غزواً" للمهاجرين.
التسييس الفج: استغلال دماء الجنود لتمرير أجندات سياسية (منع الهجرة، عسكرة المدن) يعمق الشرخ المجتمعي ويجعل من المستحيل الوصول إلى أرضية مشتركة.
الخلاصة: أمريكا تأكل نفسها
ما حدث في محيط البيت الأبيض ليس مجرد جريمة جناية، بل هو عرض لمرض عضال ينخر في جسد الولايات المتحدة. عندما يُطلق النار على الجيش في العاصمة، وعندما يرد الرئيس بعسكرة الشوارع وخطاب الكراهية، وعندما ينقسم الشعب بين "شامت" و"متوعد"، فإننا أمام مشهد لا يختلف كثيراً عن بدايات الحروب الأهلية في دول أخرى. أمريكا اليوم لا تواجه عدواً خارجياً، بل تواجه نفسها، ويبدو أن "الثمن الباهظ" الذي توعد به ترامب لن يدفعه المهاجم وحده، بل سيدفعه كل مواطن أمريكي من أمنه وحريته ومستقبل بلاده.

