مرة أخرى، يحتفي المصريون على وسائل التواصل الاجتماعي بإنجاز فردي حققه مصري في الخارج، وهذه المرة بفوز طبيب الأسنان دكتور كريم الموافي على جائزة أفضل عملية جراحية في مؤتمر الـ ESCRS لطب وجراحات العيون في ألمانيا، وتُقدم القصة على أنها دليل على تفوق المصريين بعيدا عن بيادة العسكر.
إبن #مصر البار، دكتور #كريم_الموافي الحاصل على جائزة أفضل عملية جراحية في مؤتمر الـ ESCRS لطب وجراحات العيون. pic.twitter.com/vwkJKxeK0W
— Mohamed Tayea (@mtaiea87) November 2, 2025
لكن هذا الاحتفاء الواسع يقابله تجاهل حكومي حتى لا يتم مسألتهم عن: لماذا لم يحقق هذا الطبيب نجاحه في مصر؟ حيث أن الإجابة ستكشف عن مأساة وطن بأكمله، حيث أصبح النجاح العالمي مرادفاً للهروب من واقع القمع والمحسوبية الذي رسخه الحكم العسكري.
إن قصص نجاح المصريين في الخارج أصبحت لائحة اتهام ضد نظام لا يمنح فرصة إلا للموالين وأبناء الطبقة الحاكمة، ويدفع أفضل عقوله إلى الهجرة لتتحول إلى مجرد أرقام في إحصاءات تحويلات النقد الأجنبي.
احتكار المناصب والفرص
لقد تحولت مؤسسات الدولة المصرية إلى إقطاعيات مغلقة تسيطر عليها فئة محدودة من أصحاب النفوذ، وعلى رأسهم المنتمون للمؤسسة العسكرية وكبار موظفي الدولة.
إن كنت شاباً مصرياً طموحاً وصاحب إمكانات، فإنك تجد نفسك مصطدماً بجدار صلب من التمييز الطبقي والمؤسسي وحتى المسارات المهنية التي يفترض أن تكون قائمة على الجدارة، مثل السلك القضائي أو الدبلوماسي أو حتى الالتحاق بالكليات العسكرية والشرطية، أصبحت حكراً على أبناء "أصحاب البيادة".
الهجرة كحل فردي وأزمة وطنية
أمام هذا الواقع المغلق، لا يجد الشباب المتميز والموهوب أمامه سوى خيار واحد: الهجرة. يغادر الآلاف من أفضل عقول مصر سنوياً إلى بلاد تقدر مواهبهم وتمنحهم الفرص التي حرموا منها في وطنهم.
والمفارقة الأكثر إيلاماً هي أن هؤلاء المهاجرين، الذين طردهم النظام، يتحولون إلى أحد أهم مصادر النقد الأجنبي له من خلال تحويلاتهم المالية.
هذه الهجرة، وإن كانت حلاً فردياً ناجحاً للبعض، إلا أنها تمثل نزيفاً حاداً للموارد البشرية على المستوى الوطني. فالدولة تفرط في ثروتها الحقيقية – شبابها المتعلم والطموح – وتترك مستقبلها رهينة لسياسات قصيرة النظر لا ترى أبعد من مصالح النخبة الحاكمة.
طوفان بشري لا يمكن السيطرة عليه
يعتقد النظام أن سياسات القمع وإغلاق المجال العام قادرة على السيطرة على المجتمع، ولكنه يتجاهل حقيقة ديموغرافية واجتماعية هائلة. يوجد في مصر اليوم أكثر من 50 مليون شاب، نسبة كبيرة منهم متعلمون ومتصلون بالعالم عبر الإعلام المفتوح ووسائل التواصل الاجتماعي. هذا الجيل، الذي يمتلك طموحات واحتياجات تفوق ما لدى الأجيال السابقة، أصبح أكثر وعياً بحقوقه وبحجم الفساد والمحسوبية الذي يحيط به.
نجوم قهروا الواقع.. خارج حدود الوطن
القائمة تطول، وهي ليست مجرد أسماء لامعة، بل قصص حقيقية عن أحلام كادت أن تُدفن لولا قرار الهجرة المصيري. هؤلاء لم "يفشلوا" في مصر، بل مصر هي التي فشلت في تقديرهم ومنحهم الفرصة، بينما احتفى بهم الغرب وكرمهم بأرفع الجوائز والأوسمة.
- محمد البرادعي: بينما حاصره النظام في مصر بعد طموحاته السياسية في أعقاب ثورة يناير، كان العالم يكرمه بمنحه جائزة نوبل للسلام عام 2005 تقديراً لجهوده كرئيس للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
- أحمد زويل: قبل أن يصبح أيقونة علمية في مصر، كان عليه أن يهاجر إلى الولايات المتحدة ليحصل على الإمكانيات التي مكنته من الفوز بـجائزة نوبل في الكيمياء عام 1999. وحتى عندما حاول رد الجميل بإنشاء مدينة زويل، واجه عراقيل بيروقراطية كادت أن تجهض المشروع.
- مجدي يعقوب: بنى أسطورته كواحد من أهم جراحي القلب في العالم في بريطانيا، التي منحته لقب "سير" وهو من أرفع الأوسمة الملكية. لم يأتِ إلى مصر إلا بعد أن أصبح رمزاً عالمياً ليؤسس مركزه الخيري في أسوان.
- محمد المفتی: طبيب الأسنان الذي فاز مؤخراً بجائزة "المشرط الذهبي" المرموقة في ألمانيا لأفضل جراحة فم وتجميل، وهو تقدير ما كان ليجده في نظام صحي يعاني من الإهمال.
- دينا قتابي: العقل الفذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، كرمتها الولايات المتحدة بمنحة "العبقرية" من مؤسسة ماك آرثر، وهي جائزة تمنح لأبرز العقول المبدعة في العالم.
- محمد صلاح: أيقونة كرة القدم الذي أصبح أسطورة في ليفربول وحصد جوائز مثل أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي، بعد أن كان مجرد موهبة على وشك أن تُهدر في دوامة الكرة المحلية.
- رامي مالك: الممثل الذي فاز بـجائزة الأوسكار كأفضل ممثل، وهو أقصى حلم لأي فنان، وهو حلم لم يكن ليتحقق في صناعة الترفيه المصرية التي تسيطر عليها أجهزة الدولة.
- محمد العريان: يُعتبر أحد أهم العقول الاقتصادية في العالم، وقد قاد مؤسسات مالية عملاقة مثل PIMCO ويحظى بتقدير واحترام في وول ستريت، بينما يقود اقتصاد بلاده مجموعة من الهواة.
- عمرو واكد: بعد تضييق الخناق عليه في مصر بسبب مواقفه السياسية، وجد أبواب السينما العالمية مفتوحة أمامه ليشارك في أفلام هوليوودية وأوروبية كبيرة.
- هاني مصطفى: أحد أبرز مهندسي محركات الطائرات في العالم، يحمل أكثر من 30 براءة اختراع ويحظى بتقدير كبير في كندا لدى شركة "برات آند ويتني"، بعد أن بدأ حياته المهنية في مصر.
هذه الأسماء ليست سوى عينة صغيرة من جيش الكفاءات التي طردها النظام لتصبح مصدر فخر في بلاد أخرى.
إنهم الدليل الحي على أن الإبداع المصري لا يزدهر إلا عندما يتحرر من أغلال دولة المحسوبية والفساد. وكل احتفاء بهم هو تذكير مرير بحجم الخسارة التي تتكبدها مصر كل يوم.

