مع اقتراب المراجعة الخامسة والسادسة لصندوق النقد الدولي لما يسمى برنامج “الإصلاح الاقتصادي”، تواصل حكومة الانقلاب توسيع حزمة قراراتها التي تطال جيب المواطن مباشرة: زيادات متتالية في أسعار الوقود والكهرباء والمياه، بالتوازي مع طرح مرافق وشركات ومستشفيات لـ“الإدارة والتشغيل” من قبل مستثمرين محليين وأجانب.

عمليًا، يتحول الحق في الخدمة العامة إلى سلعة مربوطة بمنطق الربح، وتُعاد صياغة دور الدولة من مقدمٍ مباشر للخدمة إلى مفوِّض عقود طويلة الأجل يصعب التراجع عنها.
 

حزمة نهاية أكتوبر: خصخصة بالتقسيط
أعلنت الحكومة عن 15 مشروعًا جديدًا بنظام المشاركة مع القطاع الخاص في الكهرباء والصحة. في قطاع الكهرباء، تتجه الدولة لمنح حق استغلال محطات محولات وشبكات في مدن السادات وأسوان الجديدة والمنصورة الجديدة و6 أكتوبر والعياط، إضافة إلى 10 مشروعات أخرى خاصة بالمحولات في القاهرة وعدة محافظات.
ورغم التأكيد الرسمي على بقاء “الأصول” مملوكة للدولة، فإن تسليم التشغيل وقرار التسعير والجدولة والصيانة لمستثمرٍ خاص لمدة طويلة يحوِّل عصب المرفق من الخدمة العامة إلى اعتبارات الربحية وتقليل المخاطر على المشغِّل لا على المستهلك.
 

من المستشفى العام إلى نموذج الربح
بالموازاة، تستعد الحكومة لطرح 10 مستشفيات حكومية لإدارتها وتشغيلها من القطاع الخاص:

  1. الشيخ زايد التخصصي
  2. مبرة المعادي
  3. العجوزة التخصصي
  4. الزيتون التخصصي
  5. الجلالة الجامعي
  6. البنك الأهلي للرعاية المتكاملة
  7. دار الولادة بالإسكندرية
  8. العبور العام
  9. أبو تيج العام
  10. بني مزار العام ونجع حمادي

كما يجري التحضير لخطة أوسع لطرح 40 مستشفى إضافيًا.
هذا التحول يبدّل تعريف المريض من “مستحق لخدمة ممولة اجتماعيًا” إلى “عميل” تُضبط مسارات تلقيه للخدمة وفق قدرة الدفع، ما يفتح الباب أمام فرز طبقي عند بوابات الطوارئ وقوائم الانتظار.
 

غطاء قانوني طويل الأجل
على الرغم من اعتراض نقابة الأطباء ومؤسسات مهنية وحقوقية، صدر في 24 يونيو 2024 القانون رقم 87 لسنة 2024 بشأن منح التزام المرافق العامة لإدارة وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية، بما يسمح لمستثمرين مصريين وأجانب بإدارة وتشغيل المستشفيات العامة لفترات بين 15 و20 عامًا.

تبرر الحكومة ذلك بـ“تخفيف الأعباء عن الموازنة” و“جذب عملة صعبة”، لكن نقل قرار التشغيل لمدد ممتدة يقيد يد المجتمع والرقابة الشعبية، ويحوّل الخدمة إلى عقدٍ محكوم ببنود تعويضات وغرامات تمنع أي تصحيح للمسار دون كلفة فادحة.
 

مستشفيات التكامل… شبكة تُفرَّغ من مضمونها
صرّح المتحدث باسم وزارة الصحة بأن القانون يتيح طرح تطوير أكثر من 500 مستشفى تكامل للقطاع الخاص دون جدول زمني واضح.
وقد أُنشئت هذه المستشفيات أصلًا لتحقيق التكامل بين الرعاية الأساسية والقطاع العلاجي وتخفيف الضغط عن المستشفيات العامة.

تفكيك هذا المستوى الوسيط يفاقم عدم المساواة الجغرافية؛ إذ سيُدفع سكان الأطراف إلى قطع مسافات أطول أو دفع كُلف أعلى للحصول على خدمات كانت قريبة ومنخفضة التكلفة.
 

كلفة اجتماعية تتضاعف
تزامن الخصخصة التشغيلية مع رفع أسعار الطاقة والمياه يرفع كلفة تشغيل القطاع الصحي ذاته، ما يدفع المشغّل الخاص إلى تمرير العبء إلى المريض: فواتير أعلى، بنود “خدمات مضافة”، عقود صيانة تُرحَّل كلفتها إلى المستخدم النهائي، وقوائم انتظار أطول للفئات غير القادرة.
وفي الكهرباء، يصبح المستهلك رهينة تسعيرٍ يستجيب لأهداف العائد على الاستثمار بدل اعتبارات العدالة الاجتماعية وحماية الفئات الهشة، خصوصًا في ظل تضخم مزمن ونقص للعملة الصعبة.
 

بدائل غُيِّبت عمدًا
بدلًا من الركون إلى عقود امتياز طويلة، كان يمكن توجيه الإرادة السياسية إلى إصلاح الإدارة العامة وتصفية بؤر الهدر والفساد، وتوسيع الشفافية في عقود الشراء الحكومية، وتحصين استقلالية هيئات التسعير والرقابة، وتمويل صيانة المرافق من خلال ضرائب تصاعدية حقيقية لا تُحمِّل الفقراء كلفة إنقاذ الموازنة.
كما يمكن إعادة إحياء فلسفة “التكامل الصحي” عبر دعم الرعاية الأولية ووحدات الأسرة، ورفع كفاءة المستشفيات العامة بآليات حوكمة داخلية بدل تسليمها لمنطق الربح.

وفي النهاية فإن ما يجري ليس “إصلاحًا” بل إعادة هيكلة تُجرد المواطن من حقوقه الأساسية في الكهرباء والمياه والعلاج، وتحوِّل الدولة إلى وسيط عقود طويل الأجل.
تحت لافتة “الشراكة مع القطاع الخاص” تُمرَّر خصخصة وظيفية تُقوِّض الخدمة العامة وتُعمِّق الفجوة الطبقية.
المطلوب مسارٌ معاكس: شفافية ومساءلة وإصلاح إداري وتمويل عادل، لا بيعٌ بالتقسيط لحق الناس في الحياة الكريمة.