إن اجتماع قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي بوزير الأوقاف، متبوعًا بتصريحات عن الحصر المميكن لممتلكات الهيئة تمهيدًا لـ“الاستثمار”، ليس خبرًا إداريًا عابرًا؛ بل حلقة جديدة في مسارٍ حكومي يُحوِّل الملكية الوقفية—ذاكرة المصريين الدينية والاجتماعية عبر قرون—إلى سلعة قابلة للتسييل. في ظل أزمة اقتصادية خانقة وانعدام ثقةٍ متفاقم، يبدو المشروع أقرب إلى تصفية منظَّمة منه إلى “تعظيم استفادة”، ويعيد طرح سؤال جوهري: هل الدولة وكيلة على الوقف أم وسيطٌ لتسويقه؟


 

 

من الحصر إلى التسييل: الاقتصاد السياسي للخطوة
التحوّل الجاري يضع أعيان الوقف—أراضي، عقارات تجارية وسكنية—داخل آلية استثمارية تستبدل الغاية الاجتماعية بمنطق العائد المالي السريع.
بدل حماية المقاصد الشرعية للوقف (رعاية الفقراء واليتامى، دعم التعليم والصحة)، تُدفع الأصول إلى عقود شراكة وبيع وانتفاع طويل الأجل، ما يفتح الباب للتفريط التدريجي في ملكية عامة تراكمت عبر أجيال.

هنا لا تبدو المسألة إصلاح إدارة بقدر ما هي إنتاج سيولة عاجلة تُسكن مؤشراتٍ مالية ولا تعالج عِلل الاقتصاد.
 

تبريراتٌ مُعلّبة وواقعٌ مُقاوِم
لغة “الإدارة الرشيدة” و“تعظيم العائد” و“تحسين أحوال الأئمة” تُستخدم كواجهة خطابية لتمرير مشروعٍ جوهره تسليع موارد الوقف.
لو كانت النية إصلاحًا، لبدأت الدولة بجردٍ علنيٍّ مُوثَّق، وتقييماتٍ مستقلة للأصول، وحوكمة تمنع تضارب المصالح، وآلية توزيعٍ مُحكمة تضمن أن كل جنيه عائدٍ يعود إلى نفس مصارف الوقف التاريخية.

لكن ما يُطرح الآن يفتقر إلى الشفافية ويغذّي شُبهات المحاباة والتخصيص لصالح شبكاتٍ نافذة.
 

ثغرات الحوكمة: الغموض باب الفساد
لا توجد—حتى الآن—قوائم مفصّلة منشورة بالأعيان، ولا منهج تقييم معلَن، ولا ضمانات ضد صفقات الأطراف ذات الصلة. كيف ستُدار المزادات؟
من يقيّم؟ أين الرقابة البرلمانية والقضائية والمجتمعية؟ وما موقع الأزهر ودوائر الفتوى من أي تحويل لصفة العين أو منفعتها؟

دون إجاباتٍ مُلزِمة، يتحوّل الحديث عن “الاستثمار الأمثل” إلى شعار يُخفي احتمالات تبدُّد الأصول عبر عقودٍ طويلة تُقفل الباب أمام استرداد الفائدة المجتمعية.
 

تهديد العقد الاجتماعي والديني
فلسفة الوقف تقوم على تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة للمحتاجين.
نقل الأعيان إلى منطق السوق بدون ضوابطٍ صارمة ينسف هذا المعنى: يُقصي الفقراء عن مواردهم التاريخية، ويُضعف الثقة في المؤسسة الدينية، ويحوّل “المقدّس الاجتماعي” إلى مالٍ خاص.

النتيجة المتوقّعة: تراجع العدالة الاجتماعية، تمدد الريع العقاري، وتآكل شرعية الدولة بوصفها أمينةً على الحقوق لا متصرّفةً فيها.
 

لماذا الآن؟ ولمصلحة مَن؟
توقيت طرح الأوقاف—في ذروة عجزٍ مالي وتضخّمٍ أنهك الأسر—يوحي بأن الهدف ليس إصلاحًا هيكليًا بقدر ما هو سد فجوات الميزانية وجذب سيولة سريعة، حتى لو جاء الثمن على حساب الإرث الوقفي.
الشكوك تتسع حول استفادة مستثمرين كبار محليين وإقليميين من مواقعٍ ذهبية بأثمانٍ “مُحسَّنة”، بينما يتحمّل المجتمع كلفة فقدان موردٍ اجتماعي دائم.
 

أسئلة مُحرِجة تكشف الجوهر
أين السجلّ الوقفي العام المفتوح للجمهور؟ من يضمن منع البيع الصريح للأعيان المحبّسة؟ كيف ستُحاط عوائد الانتفاع بـ“أسوار قانونية” تُجبر على صرفها حصريًا في مصارف الوقف؟ ولماذا لا يُجرَّب أولًا نموذج “صندوق سيادي وقفي” مُستقل الحوكمة، تديره مجالس أمناء من قضاء وخبراء وأزهر ومجتمع مدني، بدل فتح الأبواب لخصخصة متدرجة؟

وفي النهاية فإن ما يُسوَّق له بوصفه “تعظيم استفادة” هو في الجوهر خصخصة للإرث الاجتماعي والديني لمصر. حماية الوقف ليست رفاهية بل صمّام أمانٍ للتماسك الاجتماعي.

لذلك فإن المطلوب فورًا:

  1. وقف أي إجراءات بيعٍ أو انتفاعٍ طويل الأجل إلى حين إصدار إطار تشريعي خاص بالحوكمة الوقفية
  2. نشر جردٍ تفصيلي مُوثَّق لكل الأعيان وتقييماتها
  3. إنشاء هيئة رقابة مستقلة تضم قضاءً وخبراء وأزهر ومجتمع مدني
  4. تحصين العوائد في صناديق موقوفة مُغلقة المصارف
  5. حظرٌ صريح على تحويل الملكية أو تغيير صفة العين بلا حكمٍ قضائي.

دون ذلك، سيبقى “تعظيم العائد” مجرد اسمٍ حركي لابتلاع الوقف باسم الاستثمار.