تصاعدت خلال الشهور الأخيرة الاتهامات الموجهة إلى وزارة داخلية السيسي بارتكاب جرائم قتل خارج إطار القانون في صعيد مصر، وسط تواطؤ إعلامي وصمت قضائي مريب.
أحدث هذه الجرائم كان مقتل أسامة محمد سليمان فراج (36 عامًا) المعروف بـ"أسامة ناصح"، في عملية وصفتها الشبكة المصرية لحقوق الإنسان بأنها تصفية جسدية ممنهجة، سبقتها بأشهر واقعة مشابهة راح ضحيتها محمد محسوب الجعيدي، أحد أبناء قرية العفادرة في ساحل سليم.
أسامة فراج.. الرصاص في الظهر
فجر الثلاثاء 9 سبتمبر، اقتحمت قوة أمنية مزرعة مانجو على الطريق السريع بقرية العونة – مركز ساحل سليم بمحافظة أسيوط، حيث يقيم فراج في منزل يخص أخواله. وبحسب الشهادات، داهمت القوات المكان حوالي الثانية صباحًا، وما إن حاول الرجل الهرب لتفادي المواجهة حتى بادروه بخمس رصاصات؛ أربع منها استقرت في ظهره، والخامسة في يده، ليسقط قتيلاً على الفور.
رواية وزارة الداخلية تحدّثت عن "اشتباك مسلح"، لكن الشبكة المصرية لحقوق الإنسان نفت ذلك استنادًا إلى شهادات الأهالي وطبيعة الإصابات. فكلها جاءت من الخلف، ما يدل على أنه لم يكن في مواجهة القوات. حتى حمله للسلاح، كما أوضح مقربون، كان بسبب خصومة ثأرية مع عائلة أخرى، وليس لمواجهة الشرطة.
بعد مقتله، نُقل الجثمان على سيارة نصف نقل إلى مستشفى ساحل سليم. ومع تجمع الأهالي الغاضبين، حاول أحد الضباط التلاعب بالموقف مدعيًا أن فراج لا يزال حيًا، وأمر بنقله إلى مستشفى أسيوط الجامعي، حيث تأكدت وفاته رسميًا. والأدهى أن النيابة لم تتحرك لمعاينة مسرح الجريمة، واكتفت باستدعاء بعض أفراد الأسرة وسؤالهم عما إذا كانوا يتهمون أحدًا في مقتله، متجاهلة أبسط الإجراءات القانونية.
محمد محسوب.. "الخُط الجديد" بين الرواية الرسمية وصوت الضحية
قبل أشهر من مقتل فراج، كان المشهد مشابهًا مع محمد محسوب إبراهيم (الجعيدي) في قرية العفادرة. الرجل ظهر في بث مباشر على فيسبوك يوم 17 فبراير الماضي، يتحدث بلهجة صعيدية صافية عن "ظلم" تعرض له على يد ضباط مركز ساحل سليم. نفى خلال البث اتهامه بأنه "الخُط الجديد" للصعيد، وكرّر تحميل وزارة الداخلية المسؤولية عن حياته وحياة أسرته، محذرًا من محاولات تصفيته.
على مدار ثلاثة أيام، ومع مطاردات قوات "بلاك كوبرا"، واصل محسوب بث قصته على الهواء، حتى سقط قتيلًا مع ثمانية آخرين وصفتهم الداخلية بأنهم "أخطر العناصر الإجرامية"، بينهم اثنان من أبنائه القُصَّر. الرواية الرسمية قدمته باعتباره "شقيًا خطرًا"، بينما اعتبر كثيرون أن تصفيته جاءت في إطار سياسة مرسومة لإسكات الأصوات المتمردة في الصعيد، حيث تصطدم السلطة بتركيبة اجتماعية معقدة وخصومات متشابكة.
لكن جنازة محسوب كانت صادمة للسلطة: آلاف من أهالي العفادرة والقرى المجاورة شيّعوه في مشهد مهيب، متحدّين الخطاب الرسمي، ما كشف عن فجوة هائلة بين الرواية الحكومية وما يراه الناس على الأرض.
صعيد مصر.. ساحة للتصفية خارج القانون
تكرار هذه الحوادث في أسيوط وصعيد مصر عمومًا يعزز ما وصفته منظمات حقوقية بأنه منهجية للتصفية الجسدية. الداخلية تستخدم فزّاعة "الخطير جدًا" و"الخُط" لتبرير عمليات قتل ميداني لا تخضع للقضاء ولا للرقابة. وبينما يُفترض أن النيابة تتحرك لمعاينة الحوادث والتحقيق في ملابساتها، تغيب تمامًا، تاركة المجال مفتوحًا للأجهزة الأمنية لتكون الخصم والحكم والجلاد.
القانون الغائب والعدالة الممنوعة
القانون المصري والدستور ينصان بوضوح على حق كل متهم في محاكمة عادلة، لكن الواقع أن الرصاص هو الذي ينطق قبل القاضي. مقتل أسامة فراج بطلقات في الظهر، وتصفية محمد محسوب رغم بثه العلني لقصته، يكشفان أن "العدالة" في الصعيد صارت تُنفذ خارج أروقة المحاكم.
دماء تكذب الرواية
بينما يروّج إعلام السيسي لرواية "الاشتباك المسلح"، تكشف الحقائق أن ما يحدث هو قتل خارج إطار القانون، يُستخدم فيه السلاح بدلًا من القضاء. دماء أسامة فراج ومحمد محسوب شاهدة على سياسة لا ترى في الإنسان مواطنًا له حقوق، بل هدفًا يمكن التخلص منه تحت لافتة "الخطر".
ما لم تتوقف هذه السياسة، ستظل قرى الصعيد تتحول إلى ساحات مفتوحة للتصفية، حيث تختلط الحقيقة بالدعاية، ويبقى صوت الضحايا أعلى من كل روايات الأجهزة.