في مشهد تراجيدي متكرر بات يلخص واقع مصر تحت حكم العسكر، استيقظت مدينة المنصورة مساء الثلاثاء على كابوس جديد من كوابيس الإهمال المؤسسي القاتل؛ حيث نشب حريق ضخم في سوق شهير في مدينة المنصورة، شمال مصر، مساء الثلاثاء، ما أدى لوفاة 3 أشخاص وإصابة 10 آخرين، قبل أن يرتفع العدد لاحقاً إلى 5 قتلى و13 مصاباً وفق مصادر صحفية.
الضحايا ليسوا مجرد أرقام في بيان رسمي بارد، بل هم شباب في مقتبل العمر، وآباء يعيلون أسراً، وعمال بسطاء كان ذنبهم الوحيد أنهم يكدحون لقمة العيش في بلد تحكمه عصابة عسكرية لا تعرف معنى المسؤولية ولا تقيم وزناً لدماء الفقراء. هذا الحريق ليس "حادثاً"، بل هو جريمة قتل بالإهمال المتعمد، وشهادة إدانة جديدة ضد نظام يبني القصور الفارهة والعواصم الإدارية بينما يترك الشعب يحترق حياً في أسواق لا تتوفر فيها أبسط معايير السلامة.
التفاصيل الدامية: عندما تلتهم النيران الأرواح
وفي التفاصيل، تلقت السلطات بلاغاً بنشوب حريق في مخزن للملابس مكون من أربعة طوابق في سوق الخواجات بشارع بورسعيد. وانتقلت فرق الإنقاذ والإطفاء إلى موقع الحادث لمحاولة إخماد النيران. لكن المشهد الذي واجهه رجال الإطفاء كان كارثياً؛ مبنى بأكمله يتحول إلى كتلة ملتهبة في دقائق معدودة، والنيران تنتشر بسرعة مرعبة بين طوابقه الأربعة المكتظة بالبضائع القابلة للاشتعال، والعمال المحاصرون داخله يصرخون طلباً للنجدة، بينما الدخان الكثيف يحول دون رؤية مخارج الطوارئ – التي على الأرجح لا وجود لها أصلاً.
الحريق لم يكن "حادثاً عابراً"، بل كان نتيجة حتمية لسلسلة طويلة من الإهمال المتراكم: مبنى تجاري بدون تصاريح سلامة، مخازن محشوة بالأقمشة والملابس الملتهبة بسهولة، غياب شبكات إطفاء تلقائية (سبرنكلر)، عدم وجود طفايات حريق أو إنذار مبكر، وضيق الممرات والمخارج بما يستحيل معه الهروب عند الطوارئ. هذه ليست "ظروف استثنائية"، بل هي القاعدة السائدة في معظم المنشآت التجارية والصناعية في مصر، حيث يتم التغاضي عن كل شروط السلامة مقابل "إتاوات" تُدفع لموظفي المحليات والحماية المدنية الفاسدين الذين يمنحون "تراخيص وهمية" لمنشآت قاتلة.
الضحايا: أسماء وأرواح على مذبح الفساد
وأكد شهود عيان تسجيل 5 وفيات و13 إصابات جراء الحريق، تم نقلها إلى مستشفى الطوارئ بالمنصورة، بينهم رأفت ماهر محمد صيام (27 عاماً) نجل صاحب المحل، وعلي محمد مصطفى الطنطاوي (43 عاماً)، وماجد علي محمد مصطفى (22 عاماً)، ومحمد أحمد السيد نخلة (37 عاماً)، وأدهم مصطفى البنا (30 عاماً).
هؤلاء ليسوا أرقاماً، بل هم بشر لهم أسر تنتظرهم، وأطفال سيصبحون أيتاماً، وأحلام تحولت إلى رماد. مات رأفت ابن الـ27 عاماً في محل والده، ومات ماجد الشاب ابن الـ22 عاماً قبل أن يبدأ حياته. دماؤهم في رقبة كل مسؤول تقاضى رشوة ليمنح ترخيصاً لمنشأة قاتلة، وفي رقبة كل مفتش تغاضى عن غياب معايير السلامة، وفي رقبة نظام يصرف المليارات على القصور والكباري بينما يترك الشعب يحترق.
غياب الرقابة: جذر الكارثة الحقيقي
المشكلة ليست في "حادث عابر" أو "ماس كهربائي"، بل في منظومة فساد وإهمال منهجي تسمح بتشغيل منشآت تجارية وصناعية قاتلة دون أدنى رقابة. تقارير حقوقية وعمالية تؤكد أن معايير السلامة والصحة المهنية في مصر "حبر على ورق"، وأن التفتيش الدوري غائب تماماً أو شكلي بحت، وأن الشركات والمحال تدفع رشاوى لموظفي المحليات والحماية المدنية مقابل الحصول على "شهادات مطابقة وهمية".
في العام الماضي وحده، وقعت عشرات الحرائق والحوادث المميتة في المصانع والأسواق والمنشآت، راح ضحيتها مئات العمال. حريق مصنع المحلة أودى بحياة 21 عاملاً، وحوادث المعديات والأتوبيسات قتلت عشرات آخرين، وانفجارات المصانع تتكرر بشكل مخيف. لكن في كل مرة، يخرج المسؤولون بنفس الكليشيهات: "تحقيقات جارية"، "محاسبة المقصرين"، "تكثيف الرقابة". ثم لا يحدث شيء، وتُطوى الملفات، وتتكرر الكارثة في مكان آخر.
السبب الحقيقي هو أن النظام الحاكم لا يعتبر حياة المواطنين أولوية. كل تركيزه منصب على "المشاريع القومية" الفارهة التي تخدم مصالح العسكر والمقاولين الكبار، بينما تُترك المدن والقرى والأسواق الشعبية للإهمال والموت البطيء. الحماية المدنية نفسها تعاني من نقص في المعدات والتدريب، ومراكز الإطفاء بعيدة عن الأحياء الشعبية، وسيارات الإطفاء قديمة ومتهالكة، والمفتشون الذين يُفترض أن يراقبوا السلامة إما فاسدون أو مكبلون بالبيروقراطية.

