يمثل الإخفاء القسري أحد أخطر الانتهاكات الحقوقية حيث تحوّل من ممارسة استثنائية إلى سياسة ممنهجة راسخة في عقلية النظام، وفق توصيف منظمات حقوقية دولية ومحلية. الجريمة لا تستهدف حرية الأفراد فحسب، بل تمتد لتزرع الرعب والقلق في نفوس أسرهم، لتتحول إلى مأساة جماعية تُلقي بظلالها الثقيلة على المجتمع بأسره.

في المنوفية، عاش الطفل كريم (15 عاماً) تجربة مريرة كشفت جانباً من هذه المأساة.
فقد تلقى مكالمة غامضة من جهة أمنية في صباح أحد أيام امتحاناته، ليُجبر على مغادرة مقعد الدراسة نحو محطة قطار بأوامر صارمة، تحت تهديد مباشر لعائلته.
ومنذ تلك اللحظة، ابتلع الغياب أثره ثلاثة أسابيع كاملة.
وعندما عاد، لم يعد الفتى كما كان: صامت، منكسر، ومثقل بذكريات لم يجرؤ على البوح بها، بينما تعيش أسرته صدمة لا تنتهي وخوفاً متجدداً.

قصة كريم، على قسوتها، تظل مجرد تفصيل صغير في لوحة أوسع، إذ تشير تقارير إلى آلاف الحالات المشابهة.
فقد وثّقت حملة "أوقفوا الاختفاء القسري" 4677 حالة بين عامي 2015 و2024، بينما سجلت المفوضية المصرية للحقوق والحريات 2723 حالة خلال خمس سنوات فقط،
وأحصت المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب 4235 حالة حتى أغسطس 2023. ورغم تفاوت الأرقام، فإنها تُجمع على حقيقة واحدة: الظاهرة مستمرة ومتصاعدة.

وتشير التحقيقات الحقوقية إلى تحول في أنماط الجريمة؛ ففي حين كانت فترة الاختفاء تمتد لشهور أو سنوات خلال أعوام الذروة (2015-2016)، اتجهت السلطات مؤخراً إلى الإخفاء قصير الأمد (يومين إلى ستة أشهر)، ما يتيح للأجهزة الأمنية انتزاع اعترافات تحت التعذيب بعيداً عن الرقابة، ويمنحها القدرة على محو تلك الفترات من السجلات الرسمية لحظة العرض أمام النيابة.

ورغم انتشار هذه الممارسات، تواصل الحكومة إنكارها. فهي تصر على أن المحتجزين إما ملاحقون قضائياً أو غادروا البلاد للانضمام إلى جماعات متطرفة.
غير أن تقارير دولية تنسف هذه الادعاءات؛ إذ اعتبرت وزارة الخارجية الأميركية الإخفاء القسري من أبرز الانتهاكات في مصر لعامي 2023 و2024، بينما أكدت منظمات مثل العفو الدولية و"هيومن رايتس ووتش" وجود سياسة ممنهجة من التعذيب والمحاكمات غير العادلة.
كما أبقى فريق الأمم المتحدة المعني بالاختفاء القسري مصر في تقريره الصادر في يوليو/ تموز 2025 ضمن قائمة الدول المثيرة للقلق.

قانونياً، يظل الوضع معقداً. فالقانون لا يجرّم الإخفاء القسري صراحة، بل يتعامل معه عبر مواد عامة عن "الحبس غير القانوني"، ما يعطل أي محاسبة حقيقية.
كما أن النيابة العامة، بحسب شهادات محامين، غالباً ما تتجاهل البلاغات أو تؤرخ الاعتقال من لحظة "الظهور" أمامها، لا من لحظة الاختفاء، ما يمنح الجناة حصانة عملية.

المحامي خلف بيومي، مدير مركز الشهاب لحقوق الإنسان، وصف ما يجري بأنه "جرائم ممنهجة منذ سنوات تشمل القبض التعسفي، الإخفاء القسري، المحاكمات غير العادلة، واستهداف المدافعين عن حقوق الإنسان". وأكد أن "أعداد المختفين قسرياً في مصر تجاوزت 19 ألفاً، في ظل إصرار النظام على إنكارها وعدم التوقيع على اتفاقية مناهضة الإخفاء القسري".

المفارقة الصارخة تكمن في التناقض بين القانون الدولي والواقع المحلي.
ففي حين تعتبر اتفاقية الأمم المتحدة لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري هذه الجريمة جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، ترفض مصر التصديق على الاتفاقية، ما يفتح الباب أمام استمرار الانتهاكات بلا رادع.

في المحصلة، يقف ملف الإخفاء القسري شاهداً على فجوة واسعة بين خطاب الدولة الرسمي وما ترصده المنظمات الحقوقية من انتهاكات ممنهجة.
وبينما يصر النظام على الإنكار، تتفاقم مأساة آلاف الأسر التي تعيش كل يوم على أمل عودة أبنائها، في انتظار لحظة قد لا تأتي.