في خطوة أثارت موجة من الغضب والانتقادات، أعلن اللواء طارق حامد الشاذلي، محافظ السويس، في 27 أغسطس 2025، بدء إجراءات إخلاء مقابر الأربعين "الروض القديم"، ونقل رفات الموتى إلى مقابر جديدة بطريق "السويس-القاهرة".

وبرر المحافظ هذا القرار بعدم صلاحية المقابر القديمة التي تحولت إلى خرابات وحظائر أغنام وأوكار للخارجين عن القانون، مشيرًا إلى قرب المنطقة من أبراج وضواحي سكنية وسط المدينة، وهو المبرر المستخدم لتحرير الأرض وتحويلها إلى حديقة مركزية لتحسين البيئة.

أصدر اللواء طارق حامد الشاذلي، محافظ السويس، قراراً ببدء إجراءات إخلاء مقابر حيّ الأربعين المعروفة محلياً بـ«الروض القديم» ونقل رفات المتوفين إلى «الروض الجديد» بطريق السويس - القاهرة، تمهيداً لتحويل أرض المقابر إلى «حديقة مركزية» تخدم سكان المدينة.

المحافظ برر القرار بسوء حالة المقابر وتحولها إلى بؤر للجريمة، واعتبر المساحة مناسبة لتحسين البيئة وتوفير متنفس عام.

الحديث عن «حديقة مركزية» يبدو سليماً على مستوى الخطاب الرسمي، لكن طرحه في سياق قَصري لإخراج مئات أو آلاف القبور من مواقع دفن تراثية واجتماعية يفتح الباب أمام قراءة أوسع: تحويل مساحات دفن إلى مشاريع عمرانية أو ترفيهية باتت نمطاً متكرراً في سنوات حكم النظام الحالي، حيث تُبرَّر عمليات الإخلاء بمبررات بيئية أو أمنية بينما تكون الفائدة الحقيقية لأطراف تخطيطية واستثمارية.

هذا النمط سبق أن أثار جدلاً في قضايا نقل رفات في القاهرة (قضية السيدة نفيسة والإمام الشافعي) وظهرت مطالب برلمانية تطالب بإيضاحات وطلبات إحاطة لدى مجلس النواب حول سرعة إخطار الأهالي وإجراءات التعامل مع الرفات.

 

هل أرض مصر حقاً ضاقت؟

المحافظ يقول إن الأرض ستُحوَّل إلى مساحات خضراء لتحسين البيئة، لكن مؤشرات رسمية وإحصاءات عامة تُظهر أن الدولة تتعامل في نفس الفترة مع مشاريع استصلاح وطرح أراضٍ جديدة بكثافة.

الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء وأجهزة حكومية أعلنت عن مئات الآلاف من الأفدنة المستصلحة أو قيد التخصيص خلال العامين الأخيرين (تقارير تشير إلى قفزة في مساحات الأراضى المستصلحة تقارب 610 ألف فدان حتى أغسطس 2025).

وعلى مستوى المحافظة، تبلغ مساحة محافظة السويس الكُلية آلاف الكيلومترات مربعة، بينما المساحة المأهولة صغيرة نسبياً مقارنةً بالإجمالي.

هذه الأرقام تطرح سؤالاً مباشراً: هل كان لا بد من إفراغ مقابر بشرية قديمة بينما آلاف الأفدنة غير مستغلة متاحة لأغراض تخطيطية أخرى؟

 

أثر القرار الاجتماعي والنفسي على الأهالي

نقل رفات الأموات ليس عملية تقنية بحتة؛ إنه تهشيم لروابط اجتماعية وذكريات عائلية متجذرة منذ عقود، أهالي سويس يدفنون في الروض منذ الستينات بحسب تقارير محلية.

قرار الإخلاء يضع أسر المتوفين أمام مأزق عملي ونفسي: تحمل تكاليف النقل والإجراءات القانونية، والتعامل مع حساسية دينية وثقافية حول التعامل مع الرفات.

وفي تجارب سابقة بمحافظات أخرى سبقت احتجاجات ومطالبات رسمية وطالبين بإجراءات شفافة تضمن حق الأهالي وكرامة الموتى.

 

خلفيات سياسية واقتصادية.. من يستفيد؟

تحويل المقابر إلى حديقة مركزية يتقاطع مع نماذج سياسات عمرانية تُقدّم على حساب فئات ضعيفة أو ذاكرة مجتمعية، هناك ثلاثة محركات محتملة تفسر ظهور مثل هذه القرارات:

1) السعي لتجميل المدن ورفع معدلات المبادرات البيئية الحكومية؛

2) تسريع مشاريع حضرية تخدم توسعات استثمارية أو عقارية؛

3) رغبة النظام في إظهار إنجازات رمزية (حدائق ومتنفسات) قبل جولات انتخابية أو زيارات رسمية.

هذا المزيج يجعل القرار أقل براءة مما يبدو.

 

مطالب الاهالي؟

المطلوب حد أدنى من الضمانات والشفافية: إخطار مسبق طويل، جداول زمنية واضحة، تعويضات مالية مناسبة لمن لا يستطيعون النقل، إشراف ديني وصحي على عملية الانتقال، ومشاركة المجتمع المدنى المحلي في التخطيط للبدائل.

كذلك، ينبغي فحص خريطة الأراضي المحيطة للبحث عن أراضٍ بديلة غير مأهولة أو مستصلحة يمكن تخصيصها للمقابر أو للمشروعات الخضراء دون المساس بمواقع دفن قديمة تحوي ذاكرة مجتمعية.

 

بين التنمية وحقوق الراقدين

لا أحد يعترض مبدئياً على زيادة المساحات الخضراء أو تحسين جودة الحياة في السويس، لكن التحضير لهذا النوع من المشاريع لا يمكن أن يتم عبر قرار إداري مفاجئ يمس رفات الأموات وكرامة الأهالي.

عندما تتحول «حديقة» إلى فرصة لتجاوز أهالي مدينة على حساب تاريخهم وحقوق ذويهم في دفن كريم، يصبح المشروع بيانياً عن اختيارات سياسية.

هل تنفق الدولة على مشاريع تخدم الناس فعلاً أم على ستوريهات تنموية تُصوَّر إعلامياً؟

إن لم تُرفق إجراءات واضحة وتعويضات شفافة ومشاركة مجتمعية حقيقية، فإن تحويل «الروض القديم» سيُسجَّل فصلاً آخر في سجل سياساتٍ تضع الأرض والصورة السياسية فوق كرامة المواطن والموتى على حد سواء.