أثار إعلان اللجنة النرويجية لجائزة نوبل في 10 أكتوبر 2025 منح الجائزة لزعيمة المعارضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو موجة واسعة من الجدل، تجاوزت حدود فنزويلا إلى المشهد الدولي. فبينما احتفى الإعلام الغربي بالقرار باعتباره “انتصارًا للديمقراطية ونضال المرأة الشجاع ضد الاستبداد”، اعتبره كثيرون قرارًا سياسيًا بامتياز، يعكس انحياز لجنة نوبل التقليدي للمحور الأمريكي الغربي، ويحول الجائزة من رمز للسلام إلى أداة لتكريس النفوذ السياسي.

 

نوبل السياسة لا نوبل السلام

منذ تأسيسها، كانت جائزة نوبل للسلام مرآة للتوازنات الدولية أكثر من كونها معيارًا للعدالة الإنسانية. واختيار ماتشادو لم يكن استثناءً. فالمعارضة الفنزويلية المثيرة للجدل تُعد أحد أبرز وجوه المشروع الأمريكي الهادف إلى تقويض نظام نيكولاس مادورو، الحليف التاريخي لروسيا والصين في أمريكا اللاتينية.

يرى محللون أن تكريمها يأتي ضمن سياق سياسي متكامل: دعم رمزي من الغرب لمحور المعارضة في فنزويلا، ومحاولة لتبييض صورة واشنطن بعد فشل عقود من سياسات الحصار والتدخل العسكري في القارة الجنوبية. بل إن توقيت الجائزة – قبل أشهر من الانتخابات الأمريكية – لا يخلو من الحسابات، إذ يمنح إدارة بايدن ورقة رمزية للقول إنها “تدعم الديمقراطية” في الخارج.

ويذهب بعض المراقبين إلى أن لجنة نوبل أرادت موازنة المعادلة السياسية: منح الجائزة لمعارضة مدعومة أمريكيًا دون أن تُتهم بانحياز صريح لترامب، الذي ما زال يلمّح إلى استحقاقه للجائزة بعد اتفاقات التطبيع في الشرق الأوسط. وهكذا، يتحول السلام إلى “أداة للتوازن بين أجنحة السياسة الغربية”، لا إلى غاية أخلاقية.

 

“بطلة سلام” بوجه صراعي

المفارقة الكبرى في قرار اللجنة أن ماتشادو، التي وُصفت بأنها “صوت الديمقراطية في فنزويلا”، تتبنى مواقف تصعيدية تتناقض مع مفهوم السلام ذاته. ففي أول تصريحاتها بعد إعلان فوزها، أكدت أنها ستنقل سفارة فنزويلا إلى القدس حال وصولها إلى الحكم، في خطوة تعد اصطفافًا كاملاً مع الموقف الأمريكي والإسرائيلي، وتحديًا صارخًا للإجماع الدولي الذي يعتبر القدس مدينة محتلة.

 

 

كيف لجائزة تُمنح باسم السلام أن تكرّم شخصية تتبنى مواقف تثير الانقسام وتدعم سياسات احتلال؟ يتساءل منتقدون عن المعايير التي تعتمدها لجنة نوبل، التي لطالما تجاهلت أصوات السلام الحقيقي في الجنوب العالمي، لتكافئ بدلاً منهم حلفاء الغرب تحت لافتة “الديمقراطية وحقوق الإنسان”.

 

 

كما أن ماتشادو، القادمة من عائلة ثرية ودوائر أعمال نافذة، لطالما دعت إلى خصخصة الشركات العامة، وتبني نموذج السوق الحر على الطريقة الأمريكية، ما يجعلها – وفق محللين – “الوجه الاقتصادي والسياسي المثالي” للمصالح الأمريكية في أمريكا اللاتينية. بذلك، يصبح “نضالها” ضد مادورو ليس فقط صراعًا على الحريات، بل معركة لإعادة فنزويلا إلى الفلك النيوليبرالي الذي ثارت عليه شعوب القارة لعقود.

 

الجائزة تفقد بريقها الأخلاقي

تاريخ جائزة نوبل للسلام مليء بالقرارات المثيرة للجدل، من منحها لهنري كيسنجر رغم دوره في حرب فيتنام، إلى تكريم قادة وقعوا اتفاقات لم تمنع الحروب. لكن قرار عام 2025 يبدو ذروة هذا التسييس. فبدلاً من أن تكافئ جهود الوساطة أو الإغاثة الإنسانية، أصبحت الجائزة تُمنح لمن ينسجم مع أولويات السياسة الغربية الراهنة.

يقول الأكاديمي البريطاني روبرت فورد إن “جائزة نوبل لم تعد منصة للضمير العالمي، بل تحولت إلى مؤشر على اتجاهات القوة الناعمة في الغرب”. فتكريم ماتشادو لا يعني دعم الشعب الفنزويلي بقدر ما يعني دعم واشنطن في معركتها الطويلة ضد التيارات اليسارية في القارة اللاتينية.

وبينما تتواصل الحروب في غزة وأوكرانيا والسودان واليمن، لم تجد لجنة نوبل بين مئات الأصوات الداعية لوقف النزاعات من يستحق التكريم سوى معارضة تنادي بالتحالف مع واشنطن وتل أبيب. هذا الانتقائية تفضح ازدواجية المعايير، وتؤكد أن “السلام” في قاموس اللجنة لا يشمل سوى من يخدم أجندتها السياسية.

 

الخلاصة: نوبل السلام تفقد معناها

قرار منح ماريا كورينا ماتشادو جائزة نوبل لا يمكن قراءته إلا كرسالة سياسية موجّهة، لا كتكريم إنساني صادق. فهو يعكس انحياز المؤسسة التي يفترض أن تكرم صُنّاع السلام إلى جانب واحد من الصراع، محوّلاً الجائزة إلى أداة دبلوماسية ناعمة بيد الغرب.

وفي حين كان يفترض أن تُكرّم نوبل هذا العام أصوات العدالة والسلام الحقيقي، اختارت أن تكرّم من يتوعد بنقل سفارته إلى القدس. وبين “السلام” و”التحالف”، يبدو أن اللجنة اختارت الثانية، مؤكدة مرة أخرى أن الجائزة التي حملت يومًا اسم الضمير الإنساني العالمي باتت اليوم تجسيدًا لضمير السياسة الغربية لا أكثر.