في مشهد جديد يعكس عمق الأزمة في قطاع الصحة المصري، أعلن محمد إسماعيل عبده، رئيس الشعبة العامة للمستلزمات الطبية بالغرفة التجارية، عن توقف عدد كبير من خطوط إنتاج المستلزمات الطبية بسبب عدم سداد هيئة الشراء الموحد لمستحقات الشركات، والتي بلغت 43 مليار جنيه.

هذه الأزمة لم تكن وليدة اللحظة، بل هي حلقة جديدة في سلسلة من الإخفاقات الحكومية في إدارة ملف التوريدات الطبية، وسط تفاقم الأوضاع الاقتصادية وانهيار آليات السوق.

 

اتفاق لم ينفذ… ووعود لم تتحقق

في محاولة لاحتواء الأزمة، توصلت الشعبة العامة للمستلزمات الطبية إلى اتفاق مع الهيئة يقضي بسداد 60% من المديونية، بما يعادل نسبة العلاج المجاني في المستشفيات الحكومية قبل تخفيضها من 60% إلى 25% بقرار من وزير الصحة. لكن الهيئة لم تلتزم حتى بسداد الدفعة الأولى التي كان مقرراً صرفها في 11 أغسطس الماضي. هذا الفشل في الالتزام يعكس سياسة حكومية تقوم على المماطلة والتضييق على القطاع الخاص، وهو ما أدى إلى انهيار شركات وتوقف الإنتاج، مما يهدد حياة ملايين المرضى.

 

من الفوضى إلى المركزية… ثم الاحتكار

أزمة هيئة الشراء الموحد بدأت منذ إنشائها عام 2019 كحل حكومي بعد تعويم الجنيه وأزمة تسعير المستلزمات. الحكومة قدمت الهيئة باعتبارها "الحل السحري" لإنهاء الفوضى في سوق المستلزمات الطبية، لكن الواقع جاء مغايراً. الآلية القديمة، التي كانت تسمح للمستشفيات والهيئات بالتعاقد المباشر مع الموردين، ألغيت لصالح آلية مركزية يديرها لواء سابق بالجيش، اللواء بهاء الدين زيدان. هذه الآلية اعتمدت على الترهيب والترغيب في التعامل مع الموردين: "من يورد بالسعر الذي نحدده يكسب، ومن يرفض يعاقب".

النتيجة؟ شركات صغيرة أفلست، احتكار يتنامى، ومستشفيات بلا مستلزمات حيوية أو تتسلم منتجات غير مطابقة لاحتياجاتها.

 

الإطاحة بالقيادات لا تكفي

بعد تراكم الأزمات وتصاعد الغضب، تمت الإطاحة باللواء بهاء الدين زيدان مطلع العام الجاري، وتعيين الدكتور هشام ستيت خلفاً له. لكن التغيير لم يأتِ بجديد سوى رفع ميزانية الهيئة من 50 ملياراً إلى 100 مليار في الموازنة العامة. هذه الزيادة لم تُترجم إلى حل جذري؛ بل استمرت المماطلة في سداد المستحقات، واستمرت المستشفيات تعاني نقصاً حاداً في المستلزمات، مما يكشف فشل الهيكل الإداري وليس الأشخاص فقط.

 

جوهر الأزمة: غياب الكفاءة وهيمنة العقلية العسكرية

جوهر المشكلة لا يكمن فقط في تأخر سداد المديونيات، بل في منظومة إدارة قائمة على الهيمنة والبيروقراطية وغياب الكفاءات. آلية الشراء الموحد، كما هي مطبقة حالياً، غير قادرة على التعامل مع سوق واسع ومعقد مثل سوق المستلزمات الطبية، لأنها تعمل وفق منطق القوة وليس منطق السوق. المطلوب هو نظام مرن، يتيح التعامل مع الموردين الكبار والصغار، ويضمن وصول المستلزمات وفق الأولويات الطبية، لا وفق ما يتوفر في المخازن.

 

آراء الخبراء: الفشل الهيكلي هو أصل الأزمة

يقول الخبير الاقتصادي الدكتور رشاد عبد الله إن "الأزمة ليست أزمة سيولة فقط، بل نتيجة طبيعية لسياسات مركزية احتكارية تدار بعقلية عسكرية لا تراعي ديناميكية السوق". ويضيف أن استمرار هذه الآلية "يعني مزيدًا من انهيار الشركات الصغيرة وارتفاع الأسعار، ما ينعكس على تكلفة العلاج ويزيد معاناة المرضى".

من جانبه، حذر الدكتور أحمد شوقي، استشاري إدارة المستشفيات، من كارثة قريبة في غرف العمليات قائلاً: "بعض المستشفيات أبلغت عن نقص في مستلزمات الجراحة الأساسية، وهذا تهديد مباشر لأرواح المرضى". وأكد أن "الخصخصة المقنّعة التي ينفذها وزير الصحة بخفض نسبة العلاج المجاني من 60% إلى 25% كارثة اجتماعية ستقصي ملايين الفقراء من العلاج".

وأخيرا فما يحدث الآن ليس مجرد أزمة سيولة، بل انعكاس لفشل حكومي مزمن في إدارة قطاع حيوي كالصحة. استمرار هذا الوضع يعني انهيار الشركات الصغيرة، تزايد الاحتكار، ومزيد من الضغط على المستشفيات التي تخدم ملايين المرضى.

الإصلاح الحقيقي لن يتحقق بزيادة الميزانية أو تغيير القيادات فقط، بل بتغيير فلسفة الإدارة نفسها، والابتعاد عن المركزية المفرطة والعقلية العسكرية التي حولت ملف الصحة من خدمة للمواطن إلى أداة للهيمنة والربح على حساب الأرواح.