لم تكن الشواطئ في مصر يومًا مجرد مساحات للترفيه، بل كانت متنفسًا طبيعيًا لكل المواطنين، خاصة الفقراء ومتوسطي الدخل.
اليوم، بات الوصول إلى البحر رفاهية محرمة على غالبية الشعب، بعد أن تحوّلت الشواطئ العامة إلى نوادٍ مغلقة ومشروعات استثمارية تُدار لصالح الأثرياء والمستثمرين الأجانب.
هذا التحول لم يأتِ صدفة، بل كان نتيجة سياسات حكومية سارت في اتجاه الخصخصة غير المعلنة، فحوّلت ما كان ملكًا عامًا إلى سلعة تُباع وتُشترى.
 

تراجع مخيف في عدد الشواطئ العامة
تشير الإحصاءات إلى أن عدد الشواطئ العامة في الإسكندرية انخفض من 12 شاطئًا مجانيًا عام 2015 إلى 5 فقط في عام 2024، أي بانخفاض تجاوز 58%.
وعلى مستوى الجمهورية، تقلص عدد الشواطئ العامة والمفتوحة من نحو 425 شاطئًا في 2015 إلى 75 شاطئًا فقط في عام 2021، وهو تراجع يصل إلى 82%.
هذه الأرقام الصادمة تؤكد أن حق المواطن في الوصول إلى البحر بات مهددًا.

يقول الدكتور محمد حافظ، خبير الموارد المائية، إن هذا التراجع لا يرتبط فقط بالسياسات الاستثمارية، بل أيضًا بغياب التشريعات التي تحمي الملكية العامة للشواطئ، حيث أصبح البحر "أصلًا عقاريًا" يتم التصرف فيه دون رقابة.
 

خصخصة تدريجية و"رفاهية محرمة" للفقراء
ما كان بالأمس مجانيًا أصبح اليوم مدفوعًا بآلاف الجنيهات. فالشواطئ التي كانت تستقبل الأسر البسيطة أصبحت تحت سيطرة شركات خاصة تفرض رسوم دخول تصل في بعض المناطق إلى 500 جنيه للفرد، فيما يتجاوز إيجار الشاليهات في الساحل الشمالي 125 ألف جنيه في الموسم.

تصف الخبيرة الاقتصادية هبة موسى هذه الظاهرة بأنها شكل جديد من أشكال التمييز الطبقي، مؤكدة أن الحكومة تخلت عن مسؤوليتها الاجتماعية في ضمان مساحات عامة للفقراء، وتركت السوق يتحكم في حق أساسي وهو الوصول إلى البحر.
 

المستثمرون الأجانب يسيطرون على الساحل
لم تقتصر الأزمة على الخصخصة المحلية، بل تعدتها إلى بيع مساحات واسعة من الشواطئ لصالح شركات ومستثمرين أجانب تحت شعار "التنمية السياحية".
هذه الصفقات التي تقدر بمليارات الجنيهات تتم دون وجود ضمانات لحق المواطن في الانتفاع، ما يحوّل الساحل المصري إلى ملكية حصرية لفئة صغيرة.

يرى الخبير القانوني أشرف دويدار أن ما يحدث يعد انتهاكًا واضحًا للدستور المصري الذي ينص في مادته 45 على أن "تحافظ الدولة على الشواطئ العامة وتكفل حق المواطنين في الوصول إليها". ويضيف: "ما نراه الآن هو التفاف على النصوص الدستورية عبر تراخيص طويلة الأجل للمستثمرين".
 

أبعاد اجتماعية واقتصادية مدمرة
هذا التوجه لا يؤثر فقط على حق الترفيه، بل يخلق فجوة اجتماعية خطيرة بين طبقات المجتمع.
فبينما يستمتع الأثرياء بشواطئ خاصة، يكتظ المواطنون بالشواطئ القليلة المتبقية حتى تصبح بيئة غير آمنة وغير نظيفة.
كما تحرم هذه السياسات ملايين المصريين من الاستمتاع بأحد أهم الموارد الطبيعية المجانية التي كانت تميز البلاد.

يقول الخبير الاجتماعي سعيد عبد الرحمن إن حرمان المواطن من الشاطئ يزيد من الضغوط النفسية والاجتماعية، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية الحالية، معتبرًا أن الدولة تفتح الباب أمام مزيد من الاحتقان الاجتماعي.
 

البحر حق لا يُباع
إن ما يحدث من خصخصة وبيع للشواطئ ليس مجرد خطأ إداري، بل هو مسار سياسي يكرّس لنهب الموارد العامة وتحويلها إلى سلعة بيد المستثمرين.
إذا لم تتحرك الدولة والمجتمع المدني لوقف هذه الكارثة، فإن الأجيال القادمة لن تجد مترًا واحدًا من البحر يمكن أن تراه دون إذن أو دفع مقابل.
إن استرداد الشواطئ ليس مطلبًا ترفيهيًا، بل هو معركة من أجل العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.