حكومة الانقلاب تحت قيادة مدبولي وعدت بزيادة المساحات الخضراء بالقاهرة الكبرى، لكن الواقع على الأرض يظهر تعارضًا مع هذه التصريحات بسبب عمليات جرف وقطع آلاف الأشجار، بما في ذلك أشجار تاريخية وحدائق كثيفة تحولت إلى أراض صحراوية أو استُغلّت لمشاريع تجارية وعمرانية.
أعلن رئيس حكومة الانقلاب مصطفى مدبولي في 27 أغسطس 2025 أنّ «الحكومة تعمل على وضع تصور شامل لزيادة المساحات الخضراء على مستوى القاهرة الكبرى» وأنه سيوجه محافظ القاهرة بإنشاء حديقة عامة على كورنيش النيل لخدمة أهالي جنوب المحافظة، البيان تكرر في عدة منابر إعلامية حكومية وتناولته صحف محلية على الفور.
التناقض الصارخ..
لكن التصريح يصطدم بسجلّ عملي مملوء بعمليات إزالة وتشويه لمساحات خضراء في السنوات الماضية: تقارير مرصدية وحالات ميدانية أظهرت فقدان مساحات شاسعة من الغطاء الشجري عبر عقود، وتحويل حدائق تاريخية إلى مشاريع أو مواقف أو أعمال إنشائية.
الأرقام المتاحة تشير إلى خسارة آلاف الهكتارات على مدار سنوات (فقدت مصر ـ بحسب رصد دولي ـ نحو ألفي هكتار من الغطاء الشجري بين 2001 و2023)، وهو ما يجعل وعد «الزيادة الفورية» يبدو إما غير واقعي أو مُستخدمًا كدعاية لتلطيف صورة سياسات عمرانية واسعة.
خسائر ملموسة
المصادر البيئية تحدثت عن تراجع ملموس في المساحات الخضراء في العاصمة، وتقارير تحدثت عن فقدان مئات الآلاف من الأمتار المربعة في فترات قصيرة، بينما تقديرات أخرى ربطت فقدان الغطاء الشجري بتوسع سير المشاريع وخطط "التحديث العمراني" منذ منتصف العقد الماضي.
هذه الخسائر لا تُعوّض بقرار واحد لخلق "حديقة على الكورنيش" مهما كانت ركيزة هذا القرار، لأن الشجرة الواحدة لها فوائد بيئية واقتصادية واجتماعية لا تُعوّض بسهولة.
أسباب القطع الرسمية تشمل استغلال الأراضي في التنمية العمرانية، تبريرات فنية مثل تعرقل الأشجار لتبطين الترع، ومبرر نقص المياه حيث يقال إن الأشجار تستهلك كميات كبيرة من المياه في ظل أزمة مائية متصاعدة في مصر.
لكن محللين ومعارضين يرون في هذه المبررات غطاء لسياسات تدمير المساحات الخضراء استغلالًا لتحقيق مكاسب استثمارية وفحماً يُصدر ويُربح منه البعض.
تقارير بيئية تشير إلى أن تقليص المساحات الخضراء أدى لزيادة درجات الحرارة بشكل ملحوظ، مع إصابة القاهرة والكثير من مدن مصر بتصحر بيئي جزئي بسبب نقص الأشجار، خاصة في دلتا مصر ذات الزحف العمراني الكبير خلال العقد الأخير.
لماذا لا يكفي وعدٌ واحد؟
خبراء البيئة والمناخ يؤكدون ضرورة التخطيط الشامل: الدكتور أحمد عبد الحميد وغيره من المختصين يوضحون أن مسألة التلوث وارتفاع درجات الحرارة تتطلب ملايين الأشجار لتعويض الانبعاثات والتخفيف من الجزر الحرارية في المدن؛ فمثلاً يحتاج كل عدد كبير من السيارات إلى أعداد مضاعفة من الأشجار لامتصاص الانبعاثات وتأمين ظلال كافية للسكان، ما يضع مطالب إعادة التشجير ضمن مشاريع طويلة المدى وليست تصريحات منبثقة عن لقاء صحفي.
من يحصل على المساحات الخضراء؟
لا تتعلق أزمة المساحات الخضراء بكمٍّ فحسب، بل بكيفية توزيعها، دراسات ومحاضر محلية تشير إلى «امتداد أخضر» يتركز في التجمعات الراقية والمدن الجديدة، بينما يُحرم سكان الأحياء الحضرية القديمة من متنفسٍ آمن وقابل للوصول.
وعود إنشاء حديقة في جنوب القاهرة لن تعيد للطبقات المحرومة متنفسها التاريخي إذا استمرت سياسات النقل والاستثمار على حساب المتنفس العام.
البرلمان المصري شهد موجات أسئلة واستفسارات حول ظاهرة قطع الأشجار وإزالة الحدائق، وبعض النواب وصف ما حدث بأنه «تدمير وليس تطوير» في حالات محلية محددة، مطالبين بمحاسبة ومراجعة المشاريع التي تُبرر الإزالة تحت شعار التطوير، هذه الانتقادات تعكس غضبًا شعبيا وسياسيا لا يمكن تطويعه ببيان صحفي واحد.
لماذا الحكم الحالي معرض للاتهام بـ«بيع الوهم»؟
المواطنون يرون تناقضًا بين التصريحات المباركة والخطوات الميدانية: إزالة أشجار معمرة، بيع أخشاب بعض القطع المزالة، وتشييد مشاريع لا تُبقِي على هوية المكان أو ذاكرة المدينة؛ لذا تتهم طبقات واسعة الحكومة بأنها «تبيع وعودًا» وعودًا سريعة تُخفّف ضغط الرأي العام لكنها لا تعالج أسباب تآكل الغطاء الأخضر المتمثلة في سياسات التخطيط العقاري والفساد الإدارى في تنفيذ المشروعات.
توصيات
تصريح مدبولي عن «حديقة على الكورنيش» و«زيادة المساحات الخضراء فورًا» لا يكفي إن لم يصاحبه جدول زمني واضحًا، تخصيص ميزانية مستقلة، حمايات قانونية للأشجار المعمرة، وخطة وطنية لإعادة التشجير تُراعِي توزيع المساحات بحسب الحاجة الفعلية لسكان الأحياء الحضرية، وليس لمشروعات استثمارية أو رمزية. بدون ذلك سيبقى وعدٌ آخر يُضاف إلى سجل وعودٍ كثيرة لم تتحول إلى واقع، وستستمر القاهرة في خسارة «رئتيها» لصالح خرسانة تُنفَذ باسم التحديث.