أطلقت وزارة الثقافة بحكومة الانقلاب سلسلة فعاليات بعنوان "جيل واعي.. وطن أقوى" يومي 22–23 أغسطس 2025، بحسب بيان الوزارة ووسائل الإعلام الرسمية، وعرَفتها بأنها "خطة تنفيذية شاملة مدتها عام" تركز على الوعي الوطني والتاريخي والرقمي والثقافي والاجتماعي، الهدف المُعلن هو ترسيخ مفاهيم الهوية والانتماء وتعميق الفهم بالتاريخ الوطني.
لكن السؤال الذي يطرحه كثيرون في الشارع الثقافي والسياسي: عن أي وطنية يتحدثون وهم أتوا للحكم على ظهر دبابة؟ هذه الحملة الرسمية تبدو كجولة دعائية لشيء أعمق؛ إعادة بناء رواية الدولة الرسمية بينما تُستمر سياسات القمع والتسليم بالمناصب للمقربين وإدارة الاقتصاد بيد الفاعلين المقربين من السلطة.
السياق السياسي.. تولي السلطة بعد يوليو 2013
لا يمكن فصل حملات "الهوية الوطنية" هذه عن الخلفية السياسية، في 3 يوليو 2013 أطاحت المؤسسة العسكرية بالرئيس المدني المنتخب محمد مرسي، ثم تحول قائد الجيش آنذاك إلى رئيس بانقلاب عسكري عام 2014 بعد انتخابات صورية شهدت أرقام تصويت ساحقة ومُنتقدة دولياً.
هذه الحقائق التاريخية تُذكر دائماً في نقد الحملة: كيف تُدرّس الوطنية بينما بنيت مراكز السلطة الحالية على انقلاب عسكري وما تلاه من قمع للمنافسين؟
حكومة الانقلاب تُسوّق مشاريع "الوعي" كجزء من بناء الإنسان والدولة، لكن الاقتصاد الحقيقي للمواطنين لا يزال يفرض أسئلة حادة؛ معدل البطالة الرسمي تراجع إلى نحو 6.6 % في 2024 وفق بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، بينما يستمر التضخم المرتفع (سجلت نسبة التضخم الحضرية 13.9 % في يوليو 2025 بعد أن بلغ ذروته 38% في سبتمبر 2023).
هذه الأرقام تبيّن ضغوط المعيشة الحقيقية على الأسر، فإذا كانت الدولة تحب "الوطن" فلماذا لا تُعالج أزمات الدخل والغلاء بدلاً من تمويل حملات تعريفية؟
الفساد والمحسوبية.. إحصاءات تُختم عليها الحملة بنقطة سوداء
مؤشرات الشفافية تُظهر أن صورة "الوطنيّة الفاضلة" لا تتطابق مع واقع الحُكم؛ في مؤشر مدركات الفساد 2024 حصلت مصر على 30 نقطة فقط، واحتلت المرتبة 130 من 180 دولة، تراجع ملحوظ وفق تقرير شفافيتى الدولي الذي ربط بين هيمنة أنظمة سلطوية وزيادة فرص الفساد وسوء الحوكمة، أي حملة "وعي" تستبطن رسائل وطنية ستكون ناقصة إن لم تُرفق بإجراءات حقيقية لمكافحة المحسوبية والحوكمة.
لماذا يخشى الناس "رسائل الوطن"؟
الاقتصاد المصري بقيادة دولة الانقلاب وكيانات عسكرية أو قريبة من الدولة ظل محور نقد المؤسسات الدولية: تقارير وبيانات صندوق النقد والبنوك تشير إلى أن الشركات الحكومية والعسكرية ما زالت تحتكر فضاءات كبيرة، وهو ما أشار إليه تقرير صندوق النقد الدولي مؤخراً عندما اعتبر هيمنة هذه الجهات عقبة أمام إصلاحات بنيوية وشفافية أكبر.
عندما تُقدّم الدولة نفسها كمعلم للهوية بينما تُسند عقوداً وامتيازات لمجموعات محددة، يتحول خطاب "الانتماء" إلى وسيلة شرعنة لهيمنة شبكة اقتصادية وسياسية مغلقة.
لا يرفض النقاد فكرة رفع الوعي الثقافي بحد ذاته، لكنهم يسألون: هل تسبق الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية أم تُستخدم كستار؟ اقتصاديون استشهدت بهم تغطيات صحفية أشاروا إلى أن الحكومة اعتمدت سياسات تقشفية وإصلاحية قسرية تحت ضغط اتفاقات دولية (مثل قرض الـ8 مليارات دولار مع صندوق النقد)، لكنها لم تَمس بالوضوح أو المساءلة في إدارة الموارد والمشروعات الكبرى.
في هذه الرؤية، حملة "الوعي" تصبح محاولة لإعادة إنتاج قصة وطنية رسمية من دون مساءلة مرفقِية.
لماذا هذا القلق مشروع؟ أسباب وأرقام مختصرة
- التفاوت والغلاء: تضخم مرتفع يضغط على الغذاء والسكن، بينما تنخفض القدرة الشرائية (التضخم 13.9%، وذروة 38% في 2023).
- سوء حكومة الشركات: سيطرة الدولة/الجيش على قطاعات استراتيجية تحد من فرص القطاع الخاص والمنافسة.
- مؤشرات فساد مرتفعة: 30نقطة في مؤشر الشفافية، وتحذيرات دولية بخصوص غياب المساءلة.
وعي زائف أم بداية إصلاحات؟
"جيل واعي.. وطن أقوى" شعار مغرٍ، لكنه يُواجه معضلة المصداقية، لا يمكن بناء وطن أقوى بإعلانات ثقافية منفصلة عن إصلاحات حقيقية في الاقتصاد والحوكمة ورفع مستوى الحريات العامة.
وستبقى هذه الحملات طلاءً سطحيًا على واقع يُجسّد الذل والإذلال لدى شريحة واسعة من المصريين.