ثمّة خلط كبير في التغطية الإعلامية والسياسية لقرار الحكومة الأردنية المتعلّق بحظر أنشطة (وأعمال) جماعة الإخوان المسلمين، التاريخية، قبل أيام، مصدره أنّ هنالك من اعتقد أنّ القرار جديد، فيما هو قرار قضائي قديم، أو أنّ هنالك تهويلاً إعلامياً مقصوداً من خصوم الجماعة ومؤيديها لهذا القرار، وكأنّه إيقاف لكل أعمال "الحركة الإسلامية" في الأردن، بما في ذلك نواب حزب جبهة العمل الإسلامي الـ31، وللحزب نفسه، بل ذهب آخرون إلى سيناريوهات حل المجلس والتراجع عن مشروع التحديث السياسي برمّته، وذلك كلّه غير صحيح، وبعيد كل البعد عن مضامين القرار وأبعاده وتداعياته السياسية عموماً.
لقرار حظر نشاط جماعة الإخوان المسلمين في الأردن أبعاد وسياقات تاريخية ممتدّة، وجزء رئيس منها، بالمناسبة، مرتبط بالأزمة داخل الجماعة نفسها، فقد تفاقمت الأزمة الداخلية بين جناحي الحمائم الذي كان يقوده القادة التاريخيون للجماعة وتيار الصقور، في وقتٍ كان هنالك قانون جديد للجمعيات يلزمها جميعاً بإعادة الترخيص وفقاً للأسس الجديدة، وهو الأمر الذي رفضته جماعة الإخوان، وكانت حينها (في العام 2015) تحت سيطرة جناح الصقور، فيما كان رأي جناح الحمائم أنّ الترخيص القانوني الجديد يحمي الجماعة، وفعلاً هذا ما قام به أحد قادة الجماعة التاريخيين، ومراقبها العام الأسبق، عبد المجيد ذنيبات، عندما رخّص، بصورة قانونية، جمعية جديدة باسم جماعة الإخوان المسلمين، ودعا "إخوانه" إلى الانضمام إليها، لكنّهم رفضوا، بل فصلوه ومعه أعداد كبيرة من مؤيدي جناح الحمائم من الجماعة، وتزامن ذلك مع خروج قيادات تاريخية أخرى من الجماعة، مثل سالم الفلاحات ورحيل غرايبة ونبيل الكوفحي وآخرين ليؤسّسوا أحزاباً جديدة، بعدما وصلت الأزمة الداخلية إلى مرحلة غير مسبوقة، وأغلب هذه التداعيات أتت بعد العام 2013، أي بعد إطاحة حكم الإخوان المسلمين في مصر.
بعد معركة قضائية استمرّت أعواماً؛ أقرّت في العام 2020 قراراتٌ صادرة من محكمة التمييز مصادرة ممتلكات جماعة الإخوان المسلمين، وتضمّنت القرارات نصوصاً تفيد بتأكيد أن الجماعة القديمة غير شرعية، ما أدّى إلى نقاشات داخل جماعة الإخوان المسلمين نفسها، بين تيار يدعو إلى الالتزام بالقانون والقضاء والالتحاق بجماعة الإخوان المرخّصة أو حتى الاكتفاء بحزب جبهة العمل الإسلامي، وهو تيار "الوسطية" في الجماعة والحزب، وتيار يرفض ذلك ويصرّ على بقاء الجماعة، حتى بالصيغة غير المرخّصة، ومن دون مقرّات، من خلال المنازل أو حتى بعض مقرات حزب جبهة العمل الإسلامي. وفعلاً، بدأت الانتخابات، للمرّة الأولى في تاريخ الجماعة، تتم بصورة سريّة للغاية وكذا الإعلان عنها وعن القيادات الجديدة، فيما فضّلت الدولة عدم التدخل والاكتفاء بالمراقبة ضمن سياسة الاحتواء التقليدية.
وخاض حزب جبهة العمل الإسلامي، بالشراكة غير الرسمية مع الإخوان، الانتخابات النيابية في سبتمبر/أيلول 2024، وحصدوا أكبر عدد من الأصوات في تاريخ الجماعة، ولم يؤثر ذلك على موقف مؤسّسات الدولة، حتى تدحرجت الأزمة أكثر مع حرب الإبادة الإسرائيلية، وتطوّرت سياسياً في الشارع، لكن القشّة التي قصمت ظهر البعير تمثّلت بمجموعاتٍ جرى الإعلان عنها وقضية الأسلحة، وأغلبها من جماعة الإخوان أو في الأوساط التنظيمية والقريبة منها، ما دفع الدولة إلى وضع حدّ للحالة غير القانونية السائدة سابقاً، والإعلان عن حظر أنشطة الجماعة، من دون التعرّض للحزب السياسي الذي يمثّلها عملياً وأغلب أعضائه من أبناء الجماعة، وله تمثيل نيابي واسع وعريض.
لا يعني قرار الحكومة الأردنية استنساخ نماذج وتجارب عربية أخرى حكمت على الجماعة وحزبها بالإرهاب، وزجّتهم جميعاً بالسجون، وجرّمت بصورة قطعية الانتماء للجماعة أو حزبها أو حتى تبني هذا الخطاب، فالقرار والسياسة الأردنيان أبعد ما يكونا عن هذا الخط، إنما المسألة ضبط العمل ليكون ملتزماً بقواعد اللعبة السياسية وبمظلة القانون وعلنياً، وهو أمر قد يكون في صالح الحركة الإسلامية مستقبلاً، ويدفعها أكثر فأكثر نحو الواقعية السياسية والعمل العلني، بعيداً عن الازدواجيات التي كانت تسم العمل الإسلامي سابقاً، وأدّت إلى مشكلاتٍ داخل الحركة نفسها، فالوضوح والشفافية والعمل العلني نموذجٌ أفضل وأرشد بكثير من المراحل السابقة. وبين يدي كاتب المقال وثيقة تؤكّد أنّ بعض قادة الحركة الإسلامية، مثل عبد اللطيف عربيات وعبد الحميد القضاة، كانا قد توصلا (غالباً في 2015) إلى مراجعة المسار ومدى جدوى بقاء الجماعة في الصيغة القائمة. وللأسف، لم تر الوثيقة التي أرسلت إلى القيادة الأممية للجماعة النور!
لنعتبر أنّنا، في الأردن، دخلنا مرحلة جديدة في العلاقة بين الدولة والإسلاميين، وقد تكون فرصة تاريخية لبناء ثقة، وتصويب قضايا عديدة عالقة وتأطيرها ضمن قواعد واضحة ومحدّدة.