تواصل تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية إلى سوق الدين المحلي تسجيل أرقام غير مسبوقة، إذ بلغت حيازات الأجانب من أدوات الدين السيادي نحو 41.3 مليار دولار بنهاية عام 2024، مقارنة بـ38 مليارًا فقط في الربع الأول من العام نفسه.
لكن هذه التدفقات التي تعلنها الحكومة كعلامة نجاح اقتصادي، يراها خبراء اقتصاد بمثابة رهان محفوف بالمخاطر، بل وتحمل شبهات قد تتجاوز حدود الاقتصاد، لتطرق أبواب الشك في شرعية مصادر الأموال وهوية الجهات التي تقف وراءها.
تدفقات ضخمة وأهداف ضيقة
وزارة المالية أعلنت في تقريرها نصف السنوي أن قيمة الاستثمارات الأجنبية في سندات الخزانة طويلة الأجل ارتفعت إلى 8.3 مليارات دولار في نهاية 2024، مقارنة بـ1.6 مليار فقط في يونيو من العام نفسه، بينما تشير بيانات البنك المركزي إلى قفزة في حيازات الأجانب من أذون الخزانة إلى 35.5 مليار دولار في إبريل 2024.
ورغم هذا الزخم، يقول الخبير الاقتصادي عبد الحافظ الصاوي إن مصر لا تكسب أكثر من "هدنة وقتية" من هذه الأموال، التي لا تُستثمر في إنتاج أو تشغيل أو تنمية، بل تدخل فقط لتحقيق أرباح عالية ثم تخرج سريعًا، دون أن تترك أثرًا اقتصاديًا حقيقيًا.
ويضيف: "ما يجري ليس استثمارًا حقيقيًا، بل أشبه بلعبة مالية، واللافت أن هوية الجهات التي تضخ هذه الأموال غامضة إلى حد كبير، ما يثير تساؤلات حول إمكانية وجود عمليات غسل أموال تتم من خلالها."
من يشتري الديون المصرية؟
الصاوي يذهب إلى أبعد من ذلك، مشيرًا إلى احتمال أن تكون بعض هذه المؤسسات واجهات لدول خليجية تتجه نحو شراء الدين المصري بدلاً من تقديم ودائع مباشرة، لتأمين دعم غير مباشر لمصر وفي ذات الوقت تحقيق أرباح.
لكن في ظل غياب الشفافية، تبقى الأسئلة الجوهرية بلا إجابة: من هؤلاء المستثمرون؟ من يمولهم؟ وما هي علاقة رأس المال المتدفق بالمصالح السياسية أو حتى بتجارة غير مشروعة تبحث عن غطاء قانوني؟
وفي هذا السياق، يتابع الصاوي: "إذا كان الاقتصاد المصري قويًا فعلًا، لما احتاج إلى أدوات استدانة قصيرة الأجل لتأمين العملة الصعبة، ولما اضطر إلى جذب الأموال الساخنة بشروط مغرية."
ديون قصيرة الأجل... وأزمة طويلة الأمد
النمط السائد في السوق المصرية يشير إلى تفضيل المستثمرين الأجانب لأذون الخزانة قصيرة الأجل، خاصة تلك التي تستحق بعد 91 يومًا، ما يعكس عدم استقرار المناخ الاستثماري، ويجعل الدولة عُرضة لموجات مفاجئة من الخروج الجماعي للأموال.
خلال أسبوع واحد فقط في مارس 2024، ضخ المستثمرون الأجانب والعرب 2.5 مليار دولار في أدوات الدين المصرية، منها 1.23 مليار في السوق الثانوية، بحسب بيانات البورصة. وفي عام واحد، تدفقت 18.2 مليار دولار على السوق المحلي، توزعت بين 14.6 مليار دولار لأجانب غير عرب، و3.5 مليار للعرب.
لكن هذا التدفق، كما يوضح اقتصاديون، لا يعكس تعافيًا اقتصاديًا بقدر ما يعبر عن مقامرة قصيرة الأجل، تغذيها التوقعات بخفض أسعار الفائدة وتراجع التضخم، وسط توترات جيوسياسية تجعل السوق أكثر تقلبًا.
غسيل أموال أم سياسة الأمر الواقع؟
تاريخيًا، استخدمت بعض الدول أدوات الدين كوسيلة لغسل الأموال، عبر ضخ أموال من مصادر مشبوهة في أدوات مالية تبدو "شرعية".
وبالنظر إلى الحجم الكبير والمفاجئ لتلك الاستثمارات في مصر، قد لا يكون من المستبعد -بحسب بعض المحللين- أن تكون السوق المصرية باتت منفتحة على مثل هذه الممارسات، في ظل هشاشة الرقابة، وضبابية الإفصاح عن المستثمرين الفعليين.
ويحذر محللون من أن استمرار الاعتماد على هذه الأموال قد يخلق أزمة مركبة: من جهة يزيد عبء الدين والفوائد على الموازنة، ومن جهة أخرى يجعل الاستقرار المالي رهينة لرغبات مستثمرين مجهولين، قد ينسحبون في أي لحظة، تاركين خلفهم فجوة يصعب سدها.
ترامب... والخطر القادم من الخارج
كذلك، قد تُعكر الاضطرابات الدولية صفو هذا التدفق المالي.
فمع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الساحة عبر فرض رسوم جمركية أربكت الأسواق، تزايدت المخاوف من أن تتجه المؤسسات المالية الدولية نحو تقليص المخاطر في الأسواق الناشئة، وهو ما قد يُخفض شهية شراء أدوات الدين المصرية مستقبلاً، خصوصاً إذا انخفضت الفائدة عالميًا أو عادت المخاطر الجيوسياسية للواجهة.