«وهو إيه اللي ممكن يتقال.. إحنا خسرنا المعركة، كان عندنا أمل نوصل لاتفاق ملء وتشغيل، وحاولنا ولم يحدث. وبعدين كان عندنا أمل نوصل لاتفاق تشغيل، وبرضُه خسرنا»، يقول مصدر دبلوماسي حكومي شارك في أشواط متتالية من مفاوضات سد النهضة، تعليقًا على إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد تشغيل توربينين جديدين لتوليد الكهرباء منه، مع قرب إتمام بنائه. وأعلن آبي أحمد، الأحد الماضي، تشغيل التوربينين الثالث والرابع لتوليد الكهرباء من السد، قبل أن يحدد، أمس، ديسمبر المقبل موعدًا لتشغيل ثلاثة توربينات جديدة، تزامنًا مع إكمال بناء السد، وامتلاء بحيرته بعد إتمام الملء الخامس. «مساء الخير، مش هنكتب أي حاجة تخص إثيوبيا أو سد النهضة على صفحاتنا الشخصية، إلا البيان الرسمي المصري، لما يخرج، لا إيجاب ولا سلب»، كان هذا نص رسالة التعليمات التي تلقاها، أمس، مصدر يعمل في إحدى قنوات الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، المملوكة للمخابرات العامة، بعد ساعات من إعلانات آبي أحمد. التعليمات التي وصلت المصدر كانت بمثابة تكرار لتعليمات بعدم التوسع في الحديث عن موضوع سد النهضة في أي من البرامج الحوارية، تم تعميمها على القنوات والإذاعات المملوكة لـ«المتحدة»، قبل بدء الملء الخامس لخزان السد الإثيوبي، بالتزامن مع موسم الأمطار الذي يبدأ في منتصف يوليو ويمتد حتى نهايات أغسطس أو مطلع سبتمبر، حسبما قال مصدر ثاني يعمل في إذاعة تابعة لـ«المتحدة». المصدر الأخير أشار إلى أن التعاطي الإعلامي الجديد مختلف عما حدث خلال الأعوام السابقة، التي شهدت ملء إثيوبيا خزان سدها دون اهتمام بالرفض المصري، «حتي السنة اللي فاتت كان في كلام عن أن إثيوبيا بتخالف الأعراف القانونية، ومصر مصرة على حقوقها، ومصر والسودان مصرين على اتفاق قانوني.. طبعا كان أقل من السنين اللي قبل كده.. لكن السنة دي الموضوع كلمة ونص»، في إشارة إلى التعامل الإعلامي المحدود، إلي درجة الاقتضاب، مع الملف. المصدر الحكومي الذي شارك في المفاوضات، أوضح بعدما اشترط عدم ذكر اسمه: «إثيوبيا مش مهتمة بينا ومفيش دعم سياسي دولي، بالعكس في دعم لإثيوبيا، سواء علني من بعض الدول أو خفي من دول أخرى إقليمية ودولية». المصدر نفسه أشار إلى أن كثير من الوسطاء الدوليين بذلوا «مساعي لا تصل إلى مستوى الجهود» لإقناع آبي أحمد، بالتفاعل مع المخاوف المصرية بشكل أو بآخر، دون أن يصلهم منه ردًا شافيًا، وبعدما كان يماطل سابقًا ويعد بعبارات «غير واضحة وغير ملزمة»، بحسب تعبير المصدر، «فهو من السنة اللي فاتت بيقول: أنا المياه عندي والسد عندي، وأنا محتاج كهربا، واتفاقيات توزيع حصص المياه اللي تمت مطلع القرن العشرين دي اتفاقيات غير ملزمة له». واتفق المصدر نفسه، مع دبلوماسي آخر، طلب بدوره عدم الإفصاح عن هويته أو طبيعة عمله، أن رسالة أديس أبابا للقاهرة حاليًا مفادها أنه: لا اتفاق قانوني ملزم على التشغيل او على استكمال الملء في حال مواسم مطر شحيح، ولا التزام بحصص مياه لمصر والسودان، ولا تنازل عن بناء المزيد من السدود في حال ما قررت إثيوبيا ذلك، وأيضًا لا تنازل عن التوسع الزراعي باستخدام مياه نهر النيل. ولفت المصدران إلى أن الرسالة الوحيدة الثابتة التي نقلها الكثير من الوسطاء منذ بدء التفاوض في أعقاب توقيع مصر والسودان وإثيوبيا على اتفاق المبادئ في 2015، هي أن إثيوبيا ستستخدم سد النهضة لتوليد الكهرباء وهو ما يعني أن المياه ستبقى مستمرة في التدفق خارج فتحات السد في طريقها إلى السودان ثم إلى مصر. أما في ما يخص احتمال قيام إثيوبيا بتخزين المياه في السد أو منعها من الوصول إلى دول المصب إذا ما أرادت، فهي أمور بحسب المصدرين لا يمكن أن تصل إلى حد الإضرار الكبير بمصر، وكان ممكن أن تضطرها في مرحلة ما لاحقة للقبول بشراء المياه من إثيوبيا. كان إعلان آبي أحمد عن تشغيل التوربينات الجديدة، قبل يومين، تزامن مع إعلانه عن إطلاق كميات إضافية من المياه عبر الممرات المائية في السد، مع تدفق النهر دون انقطاع، مشيرًا إلى أن السد الإثيوبي يلعب دورًا حاسمًا في «ضمان حصول الدول الواقعة على مجرى النهر، على إمدادات ثابتة من المياه، وخاصة أثناء فترات الجفاف». مصادر متعددة تحدثت لـ«مدى مصر» اتفقت أن أجواء توتر سيطرت في وزارتي الخارجية والري، مع جهات رسمية أخرى تتابع موقف الرأي العام، عقب الإعلان الإثيوبي، حتى إن لم تكن هناك ردود فعل رسمية. «حتى الآن لم نتأثر كثيرًا، ولكن طبعًا في أثر، المهم هو القادم»، يقول مصدر غير رسمي، قريب من الدوائر الرسمية، مشيرًا إلى وجود أفكار وخطط، لم يحددها، للتعامل مع الأمر بصيغ مختلفة، في ضوء ما هو متوقع من احتمالات نقص حصة مصر السنوية من المياه. وأكد المصدر نفسه أن ما يعقد الأمر هو انضمام جنوب السودان مؤخرًا للاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل «اتفاقية عنتيبي»، التي أُطلقت في 2010 رغم معارضة مصرية شديدة.
وانضمت جنوب السودان لاتفاقية عنتيبي في يوليو الماضي، وسط ترحيب إثيوبي بتلك الخطوة، التي وصفها آبي أحمد وقتها بـ«الإنجاز الدبلوماسي، واللحظة التاريخية لإثيوبيا»، كون انضمام جنوب السودان يسمح بدخول الاتفاقية حيز النفاذ، بما تشمله من بند يمنح دول المنبع حق إقامة المشروعات دون الرجوع أو التوافق أو الإخطار المسبق مع دولتي المصب، مصر والسودان، اللتان تتمسكان باتفاقيات 1929 و1959 الملزمتين لدول حوض النيل بعدم الإضرار بدول المصب، وتلزمها بحصص المياه المقررة لدولتي المصب. بالنسبة لمصر، فإن النقطة الأكثر إزعاجا في الاتفاقية هي حق الدول الأعضاء في مراجعة حصص دولتي المصب من المياه، فيما سبق وأشار أكثر من مصدر دبلوماسي مطلع على الملف، أن القاهرة تعرف على سبيل القطع أن هناك نية لدى معظم الدول الموقعة على الاتفاقية، لتقليل حصة مصر السنوية من المياه، المقررة بنحو 56 مليار متر مكعب، والتي تقول القاهرة إنها لا تفي باحتياجاتها الأساسية والمتزايدة من المياه. الدبلوماسيان اللذان طلبا عدم الإفصاح عن اسميهما اتفقا على أن مصر التي خسرت معركة وقف بناء السد، ووقف توريد توربيناته، وخسرت معركة الضغط على إثيوبيا للوصول إلى اتفاق قانوني ملزم، أصبحت اليوم في مواجهة تحرك قد لا يكون عاجلًا لإعادة صياغة حصص المياه. لتقل حصة مصر من المياه السنوية. وتتباين التقديرات حول أسباب الإخفاق في هذه المعركة الطويلة، التي بدأت تحت حكم حسني مبارك، قبل ثورة يناير 2011، واستمرت حتى ديسمبر 2023، حين توقفت تمامًا المفاوضات الثلاثية بين مصر والسودان وإثيوبيا. إذ يرى البعض أن الخطأ تمثل في عدم تحرك مصر منذ البداية للدخول في شراكة مع إثيوبيا لتنفيذ مشروعات مياه كانت يمكن أن تغني عن سد النهضة وتساعد إثيوبيا في الوقت نفسه في توليد الكهرباء التي تحتاجها كدولة نامية واعدة، ويري البعض الآخر أن الفشل الأكبر كان أثناء عامي 2011 و2012، عندما شرعت إثيوبيا في بناء السد وتعليته بينما الحكم المؤقت في مصر منصرف إلى المواجهات السياسية حول انتقال السلطة. مع هذين الرأيين، يميل رأي أغلب المسؤولين المصريين الذين تحدثوا خلال سنوات التفاوض إلى أن هناك إخفاقين أساسيين، الأول هو التوقيع على اتفاق المبادئ في 2015 دون الحصول على ضمانات بالتزام إثيوبيا بالوصول إلى اتفاق عادل وملزم قانونًا، ما منح إثيوبيا اعترافًا مصريًا قانونيًا بالسد، دون منح مصر أي شيء فعلي في المقابل، والثاني هو إخفاق مصر في استقطاب كل دول حوض النيل غير المنضوية تحت مظلة اتفاق عنتيبي، بما يحول دون انضمام المزيد من الدول لتلك الاتفاقية. الآن، بحسب مصدر دبلوماسي مصري ثالث، تسعى القاهرة لتعويض الإخفاقات بتطوير العلاقات مع أكبر عدد ممكن من دول حوض النيل، «نعم بما في ذلك تلك المنضمة لاتفاقية عنتيبي»، على أمل استيعاب الموقف، ريثما يتم صياغة تصور حول الخطوات السياسية والقانونية المحتملة لمواجهة الهجمة على حصة مصر من مياه النيل.