بشكل مفاجئ خانت دولة جنوب السودان، النظام المصري برئاسة عبد الفتاح السيسي ووقعت على اتفاق “عنتيبى” التي تمنح دول منبع حوض النيل الحق في بناء السدود دون إخطار دولتي المصب (مصر والسودان) ولا تعترف بحصص المياه المخصصة لهما.

خيانة جنوب السودان لمصر جاءت بالرغم من العلاقة الخاصة التي ظلت توليها القاهرة لدولة الجنوب وتوفير الدعم لها وبناء مشاريع لصالحها ورعاية أبنائها في جامعاتها وتوفير الدعم المالي لهم وتفضيلهم على أبناء السودان.

جنوب السودان استغلت حالة التدهور السياسي والفشل الدبلوماسي لمصر وتراجع دورها في المنطقة، ووقعت على اتفاق عنتيبي في 8 يوليو/ تموز 2024 لتصبح الدولة السادسة من 11 من دول حوض النيل التي تصدق رسميا على الاتفاق.

يعني هذا دخول الاتفاق حيز التنفيذ، إذ يشترط الجزء الثالث منه تصديق برلمانات 6 دول على الأقل، لتأسيس المفوضية التي سيكون مقرها الدائم في أوغندا، بحسب موقع “الاستقلال”.

سيخلق ذلك حقائق خطيرة على الأرض ويجعل ما تفعله إثيوبيا وأي دولة إفريقية من حجز لمياه النيل عبر بناء السدود، أمرا قانونيا، ويهدد أمن مصر والسودان المائي والوجودي بصورة قاتلة.

خيانة جنوب السودان لمصر لم تقتصر على حصارها مائيا بتوقيع اتفاق عنتيبي، بل وقيامها باستقبال القائد العسكري الثاني في قوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو (حميدتي) ومعه قائد عسكري إثيوبي كبير وسط غموض كبير.

زاد من كشف معالم المؤامرة، ظهور دور إماراتي مشبوه في دعم جنوب السودان بـ 13 مليار دولار قبل ثلاثة أشهر فقط من توقيعها اتفاق عنتيبي، ما يطرح تساؤلات عن دور أبو ظبي، التي تعادي جيش السودان وتضر بمصالح مصر.

قصة “عنتيبي”

منذ عام 1997، ظلت إثيوبيا وتنزانيا وأوغندا تروج لاتفاق إطاري لتقاسم المياه بين دول حوض النيل (11 دولة، هي: إريتريا، أوغندا، إثيوبيا، السودان، جنوب السودان، مصر، الكونغو الديمقراطية، بوروندي، تنزانيا، رواندا، كينيا).

ومن ثم عدم الاعتراف بحصة مصر التي تبلغ 55.5 مليار متر مكعب و18.5 مليار متر مكعب للسودان، وفقا لاتفاقيات 1929 و1959.

نجحت في 14 مايو 2010 في جمع توقيع 5 من دول منابع النهر هي: إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا، في مدينة “عنتيبي” الأوغندية سُمي إعلاميا بـ “اتفاق عنتيبي”، لكن 4 منها صدقت وبقيت كينيا بدون تصديق.

استغلت هذه الدول انشغال مصر بثورة يناير 2011، لإقناع بوروندي في مارس من نفس العام، بالتوقيع.

وفي أكتوبر 2023، صدقت بوروندي على “عنتيبي”، وأودع سفيرها في منظمة الاتحاد الإفريقي وثيقة تصديق بلده على الاتفاق الإطاري لدول حوض النيل لتصبح الدولة الخامسة من 11 التي تصدق رسميا على الاتفاق.

واليوم صادقت جنوب السودان، التي كانت مصر تتصور أنها حديقتها الخلفية ولن تخونها، ليصبح عدد المصدقين رسميا 6 من 11 دولة، ما يعني تفعيل الاتفاق وخسارة مصر والسودان كدولتي مصب.

علما أن كينيا وقعت على الاتفاق ولكن لم تصدق نهائيا عليه حتى الآن وقد يشجعها الوصول للحد اللازم لإنفاذ الاتفاق للتصديق بدورها.

يعني هذا دخول الاتفاق حيز التنفيذ بعد 60 يوما من تصديق السبع دول إفريقية على الوثيقة أو انضمامها إليها وإيداع صكوكها لدى الاتحاد الإفريقي أي في 6 أكتوبر 2024.

إذ يشترط الجزء الثالث من الاتفاق تصديق برلمانات 6 دول على الأقل، كي يصبح ساريا وتأسيس مفوضية حوض النيل، التي سيكون مقرها الدائم في أوغندا.

لتبقى دولتا المصب (مصر والسودان) وحدهما مع إريتريا والكونغو غير موقعات على الاتفاق، وفق بحث نشره الدكتور سلمان سلمان، المستشار السابق في قانون المياه لدى البنك الدولي عبر مدونة “مشروع قانون المياه الدولي” في 15 يوليو 2024.

وتعارض مصر والسودان اتفاق عنتيبي وتتمسكان باتفاقيات 1902 و1929 و1959 التي ترفض الإضرار بدول المصب، كما تقر حصة 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل لمصر، وحصة 18.5 مليار متر مكعب للسودان.

وتعترض مصر على الاتفاق، بشكل أساسي، بسبب بند يمنح دول المنبع “حق إقامة المشروعات (السدود على النيل) دون الرجوع أو التوافق مع دول المصب، أو حتى دون الإخطار المسبق”

وهذا البند يتعارض مع القوانين الإقليمية والدولية التي تنظم حق الانتفاع بالأنهار والمجاري المائية المشتركة بين الدول.

والمفارقة أن مصر الرسمية لم تُعقب على هذه الخيانة، وترك نظام السيسي لجانه الإلكترونية مثل الإعلامي أحمد مبارك، تهاجم جنوب السودان وتصف ما فعلته بأنه “غدر بالقاهرة”

واكتفي محمد نصر الدين علام، وزير الري الأسبق بالزعم، عبر حسابه على فيسبوك أن موافقة برلمان جنوب السودان، على اتفاق عنتيبي، لا يدخلها حيز التنفيذ، نظرا لعدم توفر الأغلبية المطلوبة.

برر ذلك بأن جنوب السودان لم تكن ضمن الدول التسع، التي شاركت في مبادرة حوض النيل وهي: كينيا رواندا بوروندي تنزانيا الكونغو أوغندا إثيوبيا السودان مصر، التي قررت توقيع الأغلبية (الثلثين أي 6 دول) وهو ما لم يحدث.
ورغم وصف أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة، عباس شراقي، خطوة جنوب السودان بالمفاجئة والصادمة لمصر والسودان، وتأكيده أن “موقفها الجديد سيولد شرخا في علاقتها مع القاهرة”، بحسب موقع الحرة الأميركي في 15 يوليو 2024.

إلا أن “شراقي” يعتقد أن مصادقة جنوب السودان لا تمنح دول المنبع، الحق في اتخاذ قرارات دون الرجوع إلى دول المصب، رغم دخول الاتفاق حيز التنفيذ بعد مصادقة 6 دول، بسبب القوانين الدولية الخاصة بإدارة المجاري المائية الدولية

وتقول بعض دول حوض النيل، وفي مقدمتها إثيوبيا، إن الاتفاقات التي تنظم استخدام مياه نهر النيل، وقعت في الحقبة الاستعمارية، ولا تلزم السلطات الحالية في تلك البلدان.

فيما تستند مصر إلى قاعدة أساسية في القانون الدولي تنص على مبدأ توارث المعاهدات، فيما يتعلق بالمعاهدات الخاصة برسم الحدود الدولية والوضع الجغرافي والإقليمي، بحيث لا تنتهي تلك المعاهدات بانتقال السيادة في الإقليم.

الحرب أو العطش؟

خطورة تفعيل اتفاق عنتيبي ودخوله حيز التنفيذ أنه ينهي فعليا وقانونيا، الحصص التاريخية لمصر والسودان (55.5 مليار متر مكعب لمصر و18.5 مليار متر مكعب للسودان) وفقا لاتفاقيات 1929 و1959، ويمنح القاهرة والخرطوم مهلة عام واحد للانضمام إلى المعاهدة.

خطورته أيضا أنه سينقل النفوذ على نهر النيل من دولتي المصب إلى دول المنبع، ويفتح الباب لإعادة تقسيم حصص المياه بين دول الحوض بما يراعي نسبة إسهام كل منها.

ويجعل سد النهضة الإثيوبي شرعيا وقانونيا وليس من حق مصر أن تعترض عليه أو تطلب من إثيوبيا توقيع اتفاق ضمانات لعدم جفاف مصر، وهو ما ترفضه إثيوبيا وبدأت هذا الشهر يوليو 2024 الملء الخامس للسد وسط تجاهل تام لمصر.

وهكذا تكون إثيوبيا نجحت في تحقيق أهدافها وانتصرت على مصر بعدما مارست ضغوطا حثيثة على جنوب السودان للتصديق على الاتفاق.

ونجحت قبل ذلك في إقناع بوروندي بالتصديق عام 2023، متحدية مطالبات مصر التاريخية المستندة إلى المعاهدات السابقة (1929 و1959).

لهذا أشاد رئيس الوزراء آبي أحمد بتصديق جنوب السودان على الاتفاق ووصفه بأنه “لحظة تاريخية”، وقال مسؤولون إثيوبيون إن هذا يزيل العقبات أمام إنشاء لجنة لإدارة النهر.

والآن، مع دخول اتفاق إطار العمل الشامل حيز التنفيذ سوف يتم إنشاء “مفوضية حوض النيل” لتحل محل “مبادرة حوض النيل” بتفويض أوسع وأكثر تفصيلا، وسلطة، ورؤية.

إذ إن التصديق على اتفاق الإطار التعاوني أمر ضروري للانتقال من مبادرة حوض النيل، وهي ترتيب انتقالي، إلى لجنة حوض النيل، وهي لجنة دائمة لحوض النهر، وفق موقع “مؤسسة فانا للإذاعة والتلفزيون” الإثيوبي 18 يوليو 2024.

ويلغي الاتفاق بذلك ضمنيا الحظر التاريخي على دول المنبع لإقامة منشآت على ضفاف النيل قد تعوق تدفق مياهه لدول المصب، كما ألغى الفيتو المصري على تلك المشروعات، فلم تعد موافقة القاهرة شرطا للمضي قدما فيها بحال.

والأخطر أن الاتفاق قد يحقق مقولة إن “الحرب القادمة سوف تكون على المياه”، أي قد تجلب حربا قادمة، حسبما يؤكد الدكتور حمدي عبد الرحمن أستاذ الشؤون الإفريقية بجامعة القاهرة وزايد، في مقال بموقع “قراءات إفريقية” في 18 يوليو 2024.

“عبد الرحمن” يتوقع أن يؤدي قيام “مفوضية حوض النيل”، رغم معارضة مصر والسودان أيضا إلى “توترات دبلوماسية متزايدة بين دول حوض النيل، مما يزيد من احتمال حدوث نزاعات مائية حول حقوق وطرق استخدام مياه النيل”

ويشير إلى أن هذا الوضع قد يتفاقم بسبب التأثيرات الاقتصادية السلبية على الأنشطة الزراعية والصناعية في مصر والسودان، اللذين يعتمدان بشكل كبير على مياه النيل.

وقد يفاقمه لجوء كل من مصر والسودان إلى التحكيم الدولي أو محكمة العدل الدولية لحل النزاعات المتعلقة بتوزيع المياه، خصوصا أن دخول الاتفاق حيز التنفيذ “سيجلب اعتراف مجتمعات المياه العالمية” بها.

كما ستزداد الأمور تعقيدا في ظل الحرب الدائرة في السودان، حيث يؤثر النزاع المستمر على قدرة السودان على المشاركة بفعالية في المفاوضات والتفاوض على حقوقه المائية.

“خبير سياسي مصري” رأى أن تصديق جنوب السودان، التي وصفها بأنها “كانت حديقة خلفية لمصر”، على اتفاق عنتيبي، “خطر كبير يعني أن مصر باتت محاصرة حصارا كارثيا وليس أمامها سوى الحرب أو العطش”

الخبير، الذي فضل عدم ذكر اسمه، قال لـ “الاستقلال” إن خطورة توقيت توقيع جنوب السودان أن كل الدول التي صدقت استغلت ضعف مصر، سواء خلال الحكم العسكري عام 2011، أو ضعف نظام السيسي الحالي الذي هو امتداد لحكم العسكر.

قال إن التنازلات المتتالية لنظام السيسي في أراضي وحقوق مصر التاريخية والمائية سواء في تيران وصنافير أو اتفاق سد النهضة (وقعها السيسي عام 2015 وعدها حلا للأزمة).

ومواقف النظام الضعيفة المتخاذلة في غزة أمام إسرائيل، وفي السودان شجعت أضعف دولة إفريقية تُسمي في العلوم السياسية “دولة فاشلة”، على خيانة مصر وإهانتها لصالح إثيوبيا والإمارات.
توقع أن يعقب ذلك قيام جنوب السودان بتطبيع علاقتها مع إسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية معها علنا، بدلا من العلاقات السرية الحالية، في ظل هرولة مصر ودول عربية على التطبيع.

وقد بدأ بعض أهالي جنوب السودان يطالبون حكومتهم بذلك، معتبرين أن مصالح جوبا مع تل أبيب أفضل من مصالحها مع الدول العربية.

لماذا الخيانة؟

ظلت التعامل الرسمي المصري يقوم على رعاية جنوب السودان ومساعدتها في إقامة المشاريع وإغراقها بالمساعدات وزارها العديد من مسؤولي المخابرات بسبب رغبة القاهرة في موافقة جوبا على بناء قناة جونجلي لتوفير 10 مليارات متر مكعب مياه لمصر.

وهو ما رفضته جوبا، بل وصادقت على اتفاق عنتيبي في موقف يعد عدائيا قد يدفع القاهرة لحرمانها من مزايا تفضيلية عديدة منها تعليم طلاب جنوب السودان في جامعات مصر وتسهيل دخولهم مصر.

لكن يبدو أن موقف جنوب السودان ليس عشوائيا وإنما متصل بتحركات أخرى في المنطقة تدور كلها حول حصار مصر واستغلال ضعف نظامها الحالي وانشغال جنرالاته بالاقتصاد والتجارة وحماية مناصبهم.

خيانة جنوب السودان لمصر واكبها خطوات عدائية لمصر تمثلت في استقبالها القائد الثاني لقوات الدعم السريع عبد الرحيم دقلو (شقيق حميدتي) ومعه رئيس الأركان الإثيوبي.

وذلك وسط تساؤلات حول أسباب هذه الزيارة العسكرية المعادية لمصر، خاصة أن قوات حميدتي أهانت جنود مصر واعتقلتهم وتحارب جيش السودان الذي تدعمه مصر رسميا.

الصحفي السوداني عبد الماجد عبد الحميد قال إن لقاء القائدين العسكريين مع رئيس جنوب السودان سلفاكير في منزله بجوبا كان بغرض بحث ملف ما تسميه مليشيا التمرد “مستحقاتها من البترول” السوداني، والتي تبلغ ملايين الدولارات.

وللرد على هذه الخطوة العدائية، طالب الخبير المصري في مجال الاتصالات “نايل شافعي” المقيم في أميركا من مصر، دعم قبيلة “الشُلك”، بقيادة الدكتور لام أكول و”باقان أموم”، في شرق جنوب السودان ضد حكومة جنوب السودان

ومعروف أن قبيلة “الدينكا”، هي التي تسيطر على الحكم في جنوب السودان ومنها الرئيس سلفاكير وكبار أركان نظامه وبينها وبين قبائل “الشُلك” و”النوير” حروب أهلية طويلة.

دور الإمارات

هذه التطورات لم تكن بمعزل عن شيطان العرب، أو نظام أبو ظبي، الذي أقرض جنوب السودان 13 مليار دولار في توقيت مشبوه قبل تصديقها على اتفاق عنتيبي بثلاثة أشهر.

ففي 27 أبريل/نيسان 2024 أقرضت شركة يديرها قريب للعائلة الحاكمة في أبو ظبي جنوب السودان 12 مليار يورو (12.9 مليار دولار) مقابل النفط، وفقا لتقرير نشره موقع “مونيتور” الأميركي.

ويبلغ حجم الصفقة نحو ضعف الناتج المحلي الإجمالي لدولة جنوب السودان إلا أن قرضاً بهذا الحجم، الذي يقارب 5 أضعاف الدين الخارجي الحالي للبلاد، قد يعيق إيرادات جنوب السودان من النفط لسنوات عديدة.

وبعد هذا الاتفاق المالي بثلاثة أشهر، انضمت جنوب السودان لاتفاق عنتيبي رغم أنه تربطها بمصر علاقات وثيقة وكانت تتبنى نفس الموقف المصري طيلة 14 سنة.

وهو ما يطرح تساؤلات أخرى حول الدور الإماراتي في حصار مصر وغلق حنفية المياه عن المصريين، لأسباب ربما تتعلق بالسيطرة على القرار المصري.

والأخطر هو التغلغل الصهيوني والأميركي في حوض النيل في ظل غياب نظام السيسي وغفلته عن مصالح مصر العليا، والتنسيق الإماراتي الإسرائيلي، وتوفير الدعم للدول الإفريقية لتشجيعها على بناء السدود واحتجاز المياه وتهديد أمن مصر القومي.

وتعتمد مصر على مياه النيل بنسبة 97 بالمئة، في حين أن غالبية دول حوض النيل تعتمد على مياه النيل بنسب تتراوح بين 1و3، وقد تصل إلى 11 بالمئة فقط من استخداماتها بسبب غزارة سقوط الأمطار هناك والزراعة على الأمطار.

ويبلغ الحجم المتوسط السنوي للأمطار التي تسقط على دول أعالي النيل حوالي 900 مليار م3 سنويا، يمثل ما يأتي منها من مياه قرابة 137 – 144 مليار م3، بينما إيراد النيل لا يتجاوز 84 مليار م3.