إنّ صلاح الآباء هو مفتاح سعادة الأبناء في الدنيا والآخرة، لأن دورهم كبير في تربية أبنائهم على الاستقامة والعمل الصالح وتجنب طريق الشيطان، والوالد مرآة ابنه، ومحل النظر الأول في الأسوة والقدوة، فإذا صلح كان دافعًا لابنه أن يكون من الصالحين.
ولأن الظل لا يستقيم والعود أعوج، فعلى الآباء أن يتقوا الله تعالى وأن يكونوا صالحين في أقوالهم وأفعالهم، ويربّوا أبناءهم على الدين والأخلاق الحميدة، وحب الناس واحترامهم، وكذلك على الصبر وتحمل المسؤولية معهم.
صلاح الآباء في القرآن والسنة
ولو تأملنا القرآن الكريم لوجدنا الإشارة إلى صلاح الآباء في كثير من الآيات، يقول الله تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا) [النساء: 9]، فهذه الآية قاعدة ربانية، لمن أراد أن ينجي نفسه وينقذ أبناءه من بعده فعليه بتقوى اللَّه ومخافته.
وصدق ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن الغلامين اليتيمين الذي قال الله تعالى عن أبيهما: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) فحفظ الله الكنز لليتيمين ببركة صلاح أبيهما، وأرسل الله رجلين عظيمين موسى عليه السلام والخضر، قال اللَّه تعالى في سورة الكهف على لسان الخضر: (وَأَما الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبكَ…) [الكهف: 82].
وورد عن عمر بن عبدالعزيز عندما سئل وهو على فراش الموت: ماذا تركت لأبنائك يا عمر؟ قال: تركت لهم تقوى الله، فإن كانوا صالحين فالله تعالى يتولى الصالحين، وإن كانوا غير ذلك فلن أترك لهم ما يعينهم على معصية اللَّه تعالى، وقال الإمام ابن القيم: “أكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوهم كبارًا”.
وقال ابن كثير في تفسيره عن الآية: “فيه دليل على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم”، وقال ابن عباس: “حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر لهما صلاح” أي: لم يبين لنا القرآن هل كان الأولاد صالحين كآبائهم كي يستحقوا هذه المكافأة أم لا”.
وقال الله- جل وعلا-: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) [الأعراف: 196]). وقال الله تعالى: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) [الصافات: 113].
وحذر الله الوالدين من النار، فقال تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ..) [التحريم: 6].
وحث النبي صلى الله عليه وسلم- الآباء والأمهات على الصلاح وحفظ الأهل، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ: أَحَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ؟ حَتَّى يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ” (رواه النسائي وابن حبان، وصححه الألباني).
وفي رواية: “كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا” (البخاري وأحمد).
فإن قلب الطفل جوهرة نفيسة قابلة للخير والشر، وأبواه هما اللذان يميلان به إلى أحد الجانبين، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟) ثم يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ…) (الروم:30)، (رواه البخاري).
روى أبو داود والبيهقي عن عبد الله بن عامر- رضي الله عنه- قال: “دعتني أمي يوما ورسول الله قاعد في بيتنا فقالت: يا عبد الله تعال حتى أعطيك، فقال لها رسول الله :”ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمرا، فقال- صلى الله عليه وسلم-: “أما أنكِ لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة”، وعنه عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد وغيره: “من قال لصبي تعال هاك- أي خذ- ثم لم يعطه ، فهي كذبة”.
وجاء في الحديث الصحيح الذي رواه عبدالله بن عمرو- رضي الله عنهما- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء الذين يعدلون في أهليهم وما ولوا” (صحيح النسائي).
وعرف الأولون ما للأبناء من دور فعال في حياة الأمة؛ إذ هم الشمس الساطعة التي تضيء جوانبها، والسلاح القوي الذي يوجه إلى صدور أعدائها، والدرع الواقي الذي يحمي حماها ويحقق لها المجد والعزة، لذلك حرصوا على أن يكونوا قدوة لهم ومثالا في التقوى ومراقبة الله، فها هو معاوية حينما سأل الأحنف بن قيس عن مكانة الأبناء ودورهم في الحياة؛ قال الأحنف: “يا أمير المؤمنين هم ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، وبهم نصون كل جليلة، فإن طلبوا؛ فأعطهم، وإن غضبوا؛ فأرضهم، يمنحونك ودهم، ويحبونك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلاً؛ فيملوا حياتك، ويودوا وفاتك، ويكرهوا قربك”.
ثمرات صلاح الآباء
ومن ثمرات صلاح الآباء التي عددتها الشريعة الإسلامية، ما يلي:
إنزال البركة على الوالدين والأبناء في كل حياتهما.
رفعة للوالدين: حتى وإن كان من بين الذرية مَن هو ظالم لنفسه أو كافر، أو أسرف على نفسه بالمعاصي والذنوب، فقد كان ولد نوح- عليه السلام- من الهالكين؛ قال الله تعالى: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [هود: 46]، وكانت زوجته على غير دين الإسلام.
حفظ الذرية: وقد صح في الحديث: (احفظ الله يحفظك)، وحفظ الله للعبد يكون بحفظه وحفظ ذريته من بعده.
تيسير الرزق للذرية: ودليل ذلك ما ذكره الإمام الغزالي: أن الإمام الشافعي لما مرض مَرَض موته، قال: مروا فلانًا يُغسلني، فلما بلغه خبر وفاة الإمام الشافعي حضر هذا الرجل وقال ائتوني بوصيته، فإذا فيها “على الشافعي سبعون ألف درهم دَيْنًا”، فقضاها عنه وقال: هذا غسلي إياه. قال أبو سعيد الواعظ : لما قدِمتُ مصر بسنين طلبتُ منزل ذلك الرجل، فدلوني عليه، فرأيتُ جماعة من أحفاده وزرتهم، فرأيت عليهم سيما الخير وآثار الفضل، فقلت: بلغ أثر الخير إليهم، وظهرت بركته عليهم.
يدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء: فقد روى البيهقي في كتاب الاعتقاد عن ابن عباس- رضي الله عنه- أنه لما نزل قول الله تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى), ثم أنزل الله بعدها قوله تعالى: (أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) يعني بإيمان.
تنشئة أبناء صالحين: يحافظون على دينهم وأخلاقهم، وينفعون أنفسهم ومجتمعهم.
السعادة والراحة النفسية: تُنير بركة الوالدين حياة أبنائهما، وتمنحهم شعورًا بالأمان والسعادة، فالأبناء ينظرون إلى آبائهم كقدوة، ويشعرون بالفخر والاعتزاز بهم عندما يكونون صالحين.
البركة في الرزق والعمر: وعد الله تعالى الوالدين الصالحين بالبركة في الرزق والعمر، في الآخرة.
المغفرة والرحمة: يُشفع الوالدان الصالحان لأولادهم يوم القيامة، وقد يُغفر لهم بفضل دعائهم.
الدرجات العالية في الجنة: يُرفع الوالدان الصالحان إلى درجات عالية في الجنة بفضل تربيتهم لأولادهم على الصلاح.
بناء مجتمع متماسك: حيث ينشأ الأبناء على القيم والأخلاق الحميدة، مما يُقلّل من السلوكيات السلبية مثل الجريمة والعنف.
يُصبح الأبناء قدوة حسنة في المجتمع، ويُساهمون في نشر الخير والإصلاح.
أبناء ناجحون: فيُساعد صلاح الوالدين على تربية أبناء ناجحين في حياتهم العلمية والعملية.
الشعور بالمسؤولية: يُنمّي صلاح الوالدين شعور الأبناء بالمسؤولية تجاه أنفسهم ومجتمعهم، ويُصبحون أكثر حرصًا على أداء واجباتهم وتحقيق أهدافهم.
إن صلاح الآباء مسؤولية عظيمة، وعلى الوالدين بذل كل جهد لتربية أبنائهم على الصلاح، والالتزام بالمنهج الذي رسمه الإسلام منذ الصغر، لأنّ الأولاد إذا عوّدوا الخير نشأوا عليه وسعدوا به في الدنيا والآخرة، وكان لوالديهم الأجر العظيم والثواب الجزيل، وإن نشأوا على الشر ودرجوا عليه؛ شقوا وهلكوا، وكان الوزر والإثم معلقًا برقبة أولياء أمورهم، والقائمين على تربيتهم، وصدق الشاعر حينما قال:
وينشأ ناشئ الفتيان فيـنا ***** عـلى مـا كـان عـوَّده أبوه