ممدوح الولي:


جاءت وفاة المفكر الموسوعي الدكتور محمد الجوادي، لتشير إلى استمرار النظام الحاكم في مصر في تجاهل قيمة النجباء من أبناء الوطن، حيث خلت الصحف الرسمية وحتى الخاصة من ذكر خبر الوفاة، فما بالنا بذكر مآثره، رغم صداقة الجوادي لغالبية القيادات الإعلامية، وحرصه على عدم الإساءة إليهم خلال سنوات غربته التي قاربت على العشر سنوات، ورغم حصوله على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وعلى جائزة الدولة التقديرية وعلى جائزة الدولة التتشجيعية، وتأليفه لأكثر من مائة كتاب بمجالات الطب وعلوم اللغة والتاريخ والفكر السياسي.
وهكذا كان حال السلطة مع كل من لا يؤيدها، سواء كان بقامة المستشار طارق البشري أو الدكتور يوسف القرضاوي، مرورا بالعشرات الذين لقوا ربهم في السجون منذ عام 2013 وحتى الآن، لتمتد مواقف السلطة الجائرة إزاء معارضيها، سواء كانوا من المسجونين، أو الموجودين خارج السجون أو حتى الذين غادروا إلى بلدان أخرى.
فمن ما زالوا في السجون يتم استخدام الحبس الاحتياطي كوسيلة لاستمرار بقائهم فيها، ومنع الزيارات عن الكثير منهم لسنوات، وحرمان البعض من التريّض والاحتياجات الأساسية التي أقرها القانون لأي مسجون، ويحصل عليها المسجونون الجنائيون في الجرائم المختلفة، بينما يُحرم منها وزراء سابقون وأساتذة جامعات وعمداء كليات جامعية وعلماء ورجال أعمال وشباب ونساء.


إجراءات مخالفة للدستور والقانون
أما من هم خارج السجون فإنهم ممنوعون من العمل في الجهات الحكومية، بل تم الاتصال بجهات خاصة محلية ودولية لمنع تشغيل بعضهم، وها نحن نشهد إشراف الجنرال بنفسه مؤخرا على اختيار العاملين في وزارة التربية والتعليم بإحدى المنشآت العسكرية بحضور قيادات الجيش، وبالطبع فإنهم ممنوعون من التعامل مع وسائل الإعلام الرسمية والخاصة مهما كانت قيمتهم العلمية والفكرية.
كما تم التحفظ على أموال البعض والاستيلاء على شركاتهم وممتلكاتهم، ووضع الكثير منهم ضمن قوائم الإرهابيين، والتي تعني منع التعامل معهم من قبل الأجهزة الحكومية حتى ولو لاستخراج شهادات ميلاد لأبنائهم أو تجديد تراخيص سيارتهم، إلى جانب منعهم من السفر.
أما الموجودون خارج البلاد فإن الكثيرين منهم يتم منع تجديد جوازات سفرهم، مع طلب مغادرتهم من بعض تلك البلدان التي يقيمون بها، والتي تدفعها مصالحها التجارية والسياسية مع النظام المصري للاستجابة لذلك.
ورغم أن كل تلك الإجراءات سواء داخل السجون وخارجها وداخل البلاد وخارجها تخالف الدستور والقانون، إلا أن هذا الأمر لا يكترث به المسؤولون سواء في السلطة التنفيذية أو القضائية أو البرلمانية، أو حتى الجهات المعنية بحقوق الإنسان سواء كان المجلس القومي لحقوق الإنسان أو جمعيات حقوق الإنسان، حيث تغدق السلطة على هؤلاء من أموال دافعي الضرائب حيث خصص مليارا و572 مليون جنيه لمجلس النواب في موازنة العام المالي الحالي، ينفق معظمها على مكافآت النواب.
كما خصص لمجلس الشيوخ 530 مليون جنيه وللمجلس القومي لحقوق الإنسان 40 مليون جنيه، ورغم أن تلك الإجراءات المخالفة للدستور والقانون تتسبب في شرخ وانقسام مجتمعي، فإن السلطات لا تكترث لذلك وتدّعي أنه لا يوجد لديها معتقلون وأنها تراعي قضايا حقوق الإنسان وتقيم المناسبات لذلك، والتي يحضرها الكثير من الشخصيات العامة ورؤساء الجامعات وقادة الأحزاب والبرلمانيين والإعلاميين، لتنطلق بها الخطب الرنانة المشيدة بما تم من جوانب متعددة لمراعاة لحقوق الإنسان في الجمهورية الجديدة!


مصالح غربية لاستخدام ملف حقوق الإنسان
وربما يتساءل البعض عن الصمت الدولي إزاء تلك الانتهاكات، رغم أن السفارات الأجنبية في البلاد ترصد كل تلك الممارسات غير الإنسانية وتبلّغ بها دولها دوريا، وهنا يصبح السؤال بلا معنى، لأن هؤلاء هم من ساعدوا النظام الحالي قبيل استيلائه على السلطة، وصمتوا عن المجازر التي قام بها، حتى حين قتلت الطائرات المئات من المدنيين العزّل، والزج بالآلاف في السجون بلا تهم واضحة، طالما أنه يحقق مصالحهم بالحفاظ على أمن إسرائيل، ومنع الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط إلى جنوب أوروبا، ويستوعب المزيد من صادراتهم السلعية والخدمية، ويشتري الكثير من أسلحتهم التي يضمنون عدم استخدامها ضد إسرائيل.
وهو أمر متكرر فعلوه من قبل في دول عديدة، واستمروا في تكراره بعد 2013 وسيستمرون في اتباعه لتظل تلك الدول تابعة لهم، سياسيا وتجاريا وعسكريا وثقافيا وفكريا، ولهذا فإنهم حريصون على القضاء على أي حركة تحرر وطنية بأي بلد، سواء في أمريكا اللاتينية أو أفريقيا أو آسيا، لتظل لهم الهيمنة.
وعندما يستخدمون ورقة حقوق الإنسان فإنه استخدام مُوظف لخدمة مصالحهم، مثلما يحدث مع الأقلية المسلمة بالصين، للتعريض بالموقف الصيني، فإذا حققت الإدارة الصينية مصالحهم فلن يسمع لهم أحد أي صوت ولو خافت، يدافع عن هؤلاء المسلمين المضطهدين سواء في الصين أو الهند أو ميانمار أو كشمير أو غيرها.
لذا فإن تمسك المسلمين بتعاليم دينهم هو الأمل والملاذ، لتكون لهم هويتهم وثقافتهم المستقلة التي تترجم عمليا وتدريجيا، في مناحي التربية والتعليم والثقافة والإنتاج والاستقلال الاقتصادي بمختلف صوره، وهو مشوار طويل يحتاج عقودا لتحققه، لكنه يستحق بذل الجهد والمال بل والأنفس لتحقيقه يوما ما، لتضيف الأجيال المُتعاقبة لبنات في تكوينه.
وهو ما سار عليه محمد الجوادي ويوسف القرضاوي وطارق البشري ومحمد مرسي، وراشد الغنوشي ومحمد بديع ومحمد رفاعه الطهطاوي وعدنان مندريس ونجم الدين أربكان، وعمر المختار وأمين الحسيني وأحمد ياسين، وعبد الكريم الخطابي وعبد القادر الجزائري، وكل شاب فلسطيني ضحّى بروحه من أجل بلده، وهؤلاء الآلاف الذين ضحوا بممتلكاتهم وحرياتهم وحياتهم من أجل دينهم في ربوع العالم الإسلامي.