تسع سنوات مرت، والقلوب لا تزال جريحة، والنفوس تستمر في التعب والمعاناة، والعقول ترزح تحت نير الحرمان، والعيون تدمع شوق الرؤيا واللقاء، والألسن معقودة عن كلمات الحب والحنان، واليد تشتاق للمسة ود من ابن أو زوج أو أخ خلف القضبان، وهم في سجون إسمنتية غابت عنها جميع معاني الإنسانية.

يوم العيد تنطلق أسارير الناس بشرًا وترحابا، وتزف عبارات المعايدة صفوًا وحنانًا، يذهب كل حبيب لرؤية حبيبه والجلوس معه والتمتع بظله وكلماته، والسكون إلى أنسه ومودته.. إلا هؤلاء.. تأتي إليهم الأعياد بوجه غير الذي تذهب به إلى غيرهم.. يرفعون أياديهم ويقولون يا رب كل الناس سعداء إلا نحن!

خرج الحاجب المنصور محمد بن أبى عامر ذات يوم للجهاد فى سبيل الله، وبعد أن حقق النصر كعادته على الإسبان، عاد إلى قرطبة ووافق رجوعه صلاة العيد والناس في المصلى يكبرون ويهللون، وقبل أن ينزل من على صهوة جواده، اعترضت طريقه امرأة عجوز، وقالت له بقلب متفطر باكٍ: يا منصور كل الناس مسرور إلا أنا، قال المنصور: وما ذاك؟ قالت: ولدى أسير عند الصليبيين في حصن رباح. فإذا بمحمد بن أبي عامر، الذي لم ينزل بعد من على ظهر جواده، والذي يعلم قدر المسئولية الملقاة على عاتقه تجاه أمة الإسلام، والذب عن حياض الأمة والدين، إذا به يلوى عنق فرسه مباشرة وينادى في جيشه ألا ينزل أحد من على فرسه ثم ينطلق متوجها إلى حصن رباح ويظل يجاهدهم حتى يجبرهم على إطلاق سراح أسرى المسلمين عندهم ومنهم ولد العجوز.

هذه المشاعر نفسها تعيشها أسر المعتقلين، وهو يرون كل أب مع ابنه، وكل زوج مع زوجه، وكل أخ مع أهله، وكل أم مع أبنائها، أما هم فقد غاب عنهم بعض هؤلاء أو جميعهم!

عايزة بابا.. بابا وحشني قوي

هكذا تقول سيرين "عايزة بابا، بابا وحشني قوي"..

سيرين ذات الأربع سنوات لم تر أباها منذ سنتين، لا تراه إلا في الصور فقط، أمها تعرفها عليه وتقول هذا أبوك! تنادي عليه سيرين لكنه لا يجيبها.. تقبل صورته لكنه لا يرد عليها بالمثل، تبكي على فقده وغيابه وهو بين الجدران الإسمنتية يبكي قلبه قبل عينيه.

تقول أم سيف وسيرين زوجة المعتقل الصحفي أحمد سبيع، مرت سنتان من الحبس الاحتياطي ولم تطبق عليه أي لائحة لا قانونية ولا إنسانية، سنتان لا نعرف شيئًا عنه.. لم نره فيهما ولم نستطع زيارته ولم نتمكن من علاجه في مرضه فالعلاج ممنوع، لا نستطيع إخباره بأي شيء عن أحوالنا بل لا نستطيع إخباره حتى بمن يقوم بالحضور معه من الأساتذة المحامين.

سنتان تقدمت فيهما بالعديد من الشكاوى لنقابة الصحفيين أطالبهم بالتدخل وتمكيني من زيارة أحمد لأطمئن عليه ويطمئن هو علينا. أتساءل ولا أجد جوابًا ما الذي يضيرهم من زيارة لا تتعدي دقائق معدودة أقل حق يمكننا الحصول عليه لكنه أيضًا ممنوع.

سنتان رأيت فيهم يُتم أولادي وأبوهم على قيد الحياة، سيف وسلمي لم يعتادوا الفقد والحرمان ولن يعتادوه رغم أنه حفر في نفوسهم وقلوبهم قهر وحزن وذكريات وآلام وجروح لا يمكن أن تُشفى أبدًا.

وتتابع زوجة سبيع، نحن ممنوعون من الزيارة وممنوعون أن نعرف عن زوجي أحمد سبيع شيئًا، وممنوعون أن نراه، وممنوعون أن يرانا أو يرى أبناءه، إننا ممنوعون من كل شيء حتى إننا ممنوعون من العيش!

"قلوبنا مكسورة"

"رمضان العاشر في غياب زوجي الدكتور أحمد عبد العاطي، سنوات غيابه أصعب سنوات العمر، وشهور غيابه أصعبها على الإطلاق حين نستقبل رمضان وعيد الفطر المبارك"، بهذه الكلمات عبرت عن مشاعرها قبيل رمضان، الدكتورة منى المصري زوجة سكرتير الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، والمعتقل منذ رمضان عام 2013.

وفي الوقت الذي يستقبل فيه الناس شهر رمضان ويحتفلون فيه بعيد الفطر المبارك؛ تغيب عنا مثل هذه الاحتفالات بل وعن آلاف بيوت المعتقلين في مصر كلها منذ الانقلاب العسكري 3 يوليو 2013.

أضافت زوجة عبد العاطي: "منذ غاب زوجي، غابت معاني الفرحة في البيت؛ نعم وإن كان للعيد فرحة بقدومه، إلا أنه يبقى في غياب الأب والزوج أصعب الأعياد".

وتابعت: "وما يزيد الأمر سوءًا أضعافًا مضاعفة هو الحرمان من رؤيته وزيارته لسنوات طوال، فمنذ 6 سنوات لا نراه ولا يرانا"، متسائلة: "في أي قانون هذا يا من تتشدقون بحقوق الإنسان ألا يرى الأب أولاده، ولا يعرف أخبارهم ولا نعرف عنه شيئًا".

وأكدت أن "سجن العقرب حيث يقبع زوجي منذ 3 يوليو 2013، مقفول تمامًا وممنوع على الجميع الدخول والزيارة، وسنوات لا نرى حتى ظله لا في موسم ولا مناسبة ولا حتى في رمضان أو الأعياد".

وتساءلت: "في أي قانون يحرم هو من الطعام والشراب والعلاج، ويحرم من الهواء والشمس، ويُحرم حتى من زيارة أهله ولو لدقائق معدودة، نُطعمُه ولو لقيمات، نجلس معه ولو مرة في الأعياد".

وفي وصفها لمشاعرها قالت: "العيد العاشر هو نفس المزيج في القلب من الطمع في رحمة الله والعون على الطاعات والقبول وأسى وألم في القلب ليس بأيدينا؛ ولكنه من فعل الظالمين".

وأضافت: "العيد العاشر الذي ينقص فيه أهم فرد في البيت، الأب والزوج، ما زالت مكسورة فيه القلوب بالقلق عليه ونحن لا نعلم عنه شيئا مشتتة فيه الأرواح بين الحاضر والغائب، ولكن حسبنا أنه يبقى اليقين في رحمة الله وعفوه وإن تجبر الظالمون".

وختمت: "تتجلى الرحمات في يوم عيد الفطر المبارك، عسى الله أن يطمئن قلوبنا على أسرانا، ويكتب لهم فرجًا وعفوًا ويكتب لنا جميعًا جَمْعًا".

"ما ذنب الصغير؟"

ابنة أحد المعلمين الذين تعرضوا للاعتقال مرتين (61 عامًا) هو وأخوها الأكبر (35 عامًا)، قالت: "لا توجد كلمات تعبر عما يحدث معنا، وخاصة مع قدوم عيد الفطر المبارك؛ أيام ثقال تمر بصعوبة".

وتحدثت عن حالة نجل أخيها الصغير متسائلة: "ما ذنب طفل صغير يُحرم من أبيه بلا أي سبب، ويقول دائمًا أين أبي؟ حينها؛ لا نعرف كيف نشرح له، فعقله الصغير البريء لن يستوعب ما سيسمعه".

وأضافت: "أما بالنسبة لنا كبنات والدنا رهن الاعتقال، فهو إحساس لا يوصف بالظلم والمهانة، ولكن كلنا أمل بالله أن يزيح هذه الغمة، ونحلم بالطبع أن يكون هو وأخي بيننا في رمضان".