الإنصاف عند الإخوان المسلمين
الإسلام يدعو للإنصاف لإقامة المجتمع السليم:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه واهتدى بهداه.. وبعد؛
المنصف هو مَن يعرف الحقَّ على نفسه ويوفيه من غير طلب.. وقد دعا الإسلام إلى تمام الإنصاف، فقال سبحانه: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)﴾ (الإسراء)، وأي إنصاف للعباد أعظم من أن الله تعالى جعل الإنسان حسيبًا على نفسه، فقال: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا(13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)﴾ (الإسراء).
وَقَدْ قال عَمَّار بْن يَاسِر رضي الله عنه: "ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَان: الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسك، وَبَذْل السَّلام لِلْعَالَمِ، وَالْإِنْفَاق مِنْ الْإِقْتَار" (البخاري).
ومن الإنصاف إنصاف الأعداء والخصوم:
وجَّه الحقُّ تبارك وتعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم إلى مطالبة الآخرين بالتعامل معه على قاعدة الإنصاف، فقال: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ أي هلموا إلى كلمة فيها إنصافٌ من بعضنا لبعض، ولا مَيْلَ فيها لأحدٍ على صاحبه، وهي ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ (آل عمران: من الآية 64). وأي إنصافٍ أسمى من أن يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأعدائه: ﴿قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)﴾ (سبأ)، فعبَّر عن الهفوات التي لا يخلو عنها مؤمنٌ بالإجرام، وعبَّر عن جريمة الكفر ونحوه بالعمل!.
وكان الأحنف بن قيس يقول: (ما عرضتُ النَّصَفة على أحدٍ فقبلها إلا تداخلني منه هَيْبة، ولا ردَّها أحدٌ إلا طمعتُ فيه).. وكان يقال: (ينبغي للملك أن يتحصن من جيوشه بالإنصاف).
ومن الإنصاف الرجوع إلى الحق متى استبان:
إن المنصف لا يتردَّد إطلاقًا في قبول الحق متى ظهر له على أي لسانٍ كان، من غير كِبْرٍ في النفس أو استمرارٍ في العناد، ومن ذلك أن رجلاً سأل عليًّا رضي الله عنه عن مسألة، فقال فيها، فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين؛ ولكن كذا وكذا. فقال علي رضي الله عنه: (أَصَبْتَ وَأَخْطَأْتُ)!.
ولا ريب أن هذا المعنى يحتاج إلى تدريبٍ نفسيٍّ شاقٍّ، وتربيةٍ إيمانيةٍ عاليةٍ، وهو ما يأخذ الإخوانُ به أنفسهم، فلا يترددون في قبول الحق، والتراجع عن الخطأ، ويَدْعون الأمةَ بكل أطيافها ونُخَبِها إلى الإنصافِ ومراجعةِ النفس والتماسِ الحق، فليس من الإنصاف تضخيمُ بعض الإعلاميين والسياسيين هفواتِ بعض الإخوان، أو افتراءُ الكذب عليهم، في الوقت الذي يغضُّ فيه الجميعُ الطَّرْف عن خطايا خصوم الإخوان، وعما يتعرض له الإخوان من مظالم بالاعتقال والتضييق ومصادرة الأرزاق!.
الإنصاف عند الإخوان:
أيها الإخوان، إن الإنصافَ فضيلةٌ نفسيَّةٌ تنشأ من طهارة النفس، فإن المرءَ إذا رزقه اللهُ صفاءَ نفسٍ أورثه ذلك الإنصافَ للناس من نفسه؛ ولذلك عُنِي الإسلامُ عنايةً تامةً بعلاجِ النفسِ الإنسانية من الهوى، وتطهيرها من الميْل والجَوْر، وتربيتها على الكمال والفضيلة والإنصاف، وهذا ما يسعى الإخوانُ المسلمون للاستقامة عليه، ويجتهدون في دعوة الناس إليه.. يقول الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله: (يقولون: إن العدل ليس في نص القانون، ولكنه في نفس القاضي، وقد تأتي بالقانون الكامل العادل إلى القاضي ذي الهوى والغاية فيطبقه تطبيقًا جائرًا لا عَدْلَ معه، وقد تأتي بالقانون الناقص والجائر إلى القاضي الفاضل العادل البعيد عن الأهواء والغايات، فيطبقه تطبيقًا فاضلاً عادلاً فيه كلُّ الخير والبر والرحمة والإنصاف).
والإنصاف- أيها الإخوة- يتطلب من الأخ إدراكًا متكاملاً لما لدى الآخرين من حسناتٍ ومَيْزات، ولما يواجههم من عوائقَ ومشكلاتٍ، ولما يُحيط بهم من ظروفٍ متغيرة، كما يتطلب التماسَ العذر لمن تعرف عنه الصلاح وابتغاء الخير.
وأوجب ما يكون الإنصافُ بين الإخوان، الذين عرفوا طريقَ الحق، وارتبطتْ قلوبُهم عليه، وعجيبٌ ممن سار في الطريق وصحب الإخوان، وخَبَرَ نُبْلَ مقاصدهم ونظافةَ أيديهم وعفةَ نفوسهم، ثم تباعدتْ به عنهم مواقفُ خاصةٌ أو آراءٌ شخصيةٌ؛ فجانب الإنصافَ، وانطلق ينطق بغير الحق، ويتعسَّف في تأويل المواقف والأقوال، ويلوي الحقائق، ويقرأ الواقع بعين الظلم والجحود، يُضَخِّم الهفوات، ويكتم الحسنات!.
فمثل هذا الأخ ندعوه أن يراجع نفسَه، ويتقي اللهَ ربَّه، وينصف بالحق إخوانه.
وإن مما يعين على اكتساب فضيلة الإنصاف: أن يحب المرءُ لإخوانه ما يحب لنفسه؛ فذلك أقرب للتقوى، وأدعى للمودة والرحمة، وأن يضع المرءُ نفسَه موضعَ أخيه؛ فذلك مما يدعو لالتماس المعاذير، والبعد عن إساءة الظن، والحذر من مواطن الظلم والاعتساف.
ارضَ للناس جميعًا مثلَ ما ترضى لنفسكْ
إنما الناسُ جميعًا كُلُّهُمْ أبناءُ جنسكْ
فلهم نفسٌ كنفسك ولهم حسٌّ كَحِسِّكْ
فاستعينوا بالله أيها الإخوان، واثبتوا على منهاجكم، وأنصفوا إخوانَكم والناسَ من أنفسكم، ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: من الآية 8)، وكونوا أقوياء وأمناء في الاعتراف بفضل الآخرين إذا أحسنوا، وتقويم خطئهم بلا إسراف ولا إسفاف، وأعطوا كل ذي حق حقه، ﴿وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ (الأعراف: من الآية 85)، والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
وإلى لقاءٍ آخر مع حديث من القلب أستودعكم الله، والله أكبر ولله الحمد.
محمد مهدي عاكف
المرشد العام للإخوان المسلمين