منذ أكثر من 21 شهرًا على بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، يبدو أن تطوّر أداء المقاومة الفلسطينية الميداني لم يَعُد مجرد اجتهاد عسكري، بل تحوّل إلى استراتيجية معتمدة تُربك حسابات الجيش الإسرائيلي، وتكسر رتابة تفوقه العسكري والتقني، عبر تنفيذ عمليات نوعية مباغتة، تدفع الاحتلال نحو استنزافٍ مفتوح، وتدحرجه تدريجيًا إلى "النقطة الحرجة".
ففي خان يونس، جنوب قطاع غزة، شكّل استهداف مركبة عسكرية إسرائيلية ومحاولة أسر الرقيب الأول (احتياط) أفراهام عازولاي، الذي كان يقود جرافة قبل أن يُقتل، لحظة فاصلة في مسار الاشتباك. العملية – رغم أنها لم تنتهِ بأسر الجندي – كشفت مدى تغيّر قواعد الاشتباك، وكفاءة المقاومة في تنفيذ عمليات جريئة في عمق انتشار القوات الإسرائيلية.
تكتيكات مفاجئة تفرض واقعًا جديدًا
بحسب صحيفة يسرائيل هيوم، فإن المقاومة الفلسطينية انتهجت مؤخرًا تكتيكات جديدة تعتمد على الاقتراب الجريء والاحتكاك المباشر، وهو ما فاجأ الجيش الإسرائيلي، الذي اعتمد لسنوات على تغطية نيرانية كثيفة وطائرات استطلاع في كل عملية برية. ومع ذلك، وجدت وحداته نفسها أمام خصم يتطور، ويعيد إنتاج أدوات قتاله في الميدان بسرعة ومرونة عالية.
وقالت الصحيفة إن العمليات الأخيرة تعكس تحولا في "عقيدة القتال" لدى المقاومة، التي باتت تستخدم أسلوب "الاختراق والتضحية" لتحقيق أهداف مركبة: إيقاع خسائر بشرية، ونقل المعركة إلى مناطق مفاجئة، ورفع الروح المعنوية لدى جمهورها.
وأشارت إلى أن القيادة الإسرائيلية أصدرت توجيهات مباشرة لقواتها بالبقاء في حالة تأهب دائم، وسط مخاوف من تكثف عمليات الاختطاف، في ظل ثغرات واضحة في توزيع وانتشار القوات داخل القطاع.
شهادة من داخل المؤسسة العسكرية: حرب عصابات تبتلع الجيش
في السياق ذاته، نقلت القناة 12 الإسرائيلية عن الجنرال المتقاعد "يسرائيل زيف" - الرئيس السابق لهيئة العمليات في الجيش - قوله إن "حرب العصابات التي تخوضها حماس مروعة، وتحرمنا من أي مكاسب استراتيجية"، واصفًا المعركة الجارية بأنها "حرب متناقضة الأهداف، تُفقد الجيش قدرته على الحسم".
وأضاف زيف أن حماس باتت قادرة على إدارة معركة "كرّ وفر" بذكاء، بينما تعاني وحدات الاحتلال من الإرهاق، في ظل استنزاف متصاعد.
انهيار داخل وحدات النخبة.. المهام لا تتطابق مع التدريب
بحسب القناة نفسها، فإن جنودًا من وحدات النخبة مثل الكوماندوز و"ماجلان" عبّروا عن سخطهم من التكليف بمهام لا تليق بتدريبهم، موضحين أن بعض العمليات الميدانية تستمر لأكثر من 12 ساعة دون توقف.
وأشارت التقارير إلى أن قرابة 10 آلاف جندي إسرائيلي قتلوا أو أصيبوا منذ بداية الحرب، مما أجبر القيادة العسكرية على سحب وحدات خاصة من مهامها الأصلية لسد الفراغ المتزايد في قوات المشاة.
خريطة عمليات جديدة للمقاومة.. مثلثات نارية تعيد رسم القتال
في تحليل عسكري بثته قناة الجزيرة، قال العقيد الركن المتقاعد نضال أبو زيد إن المقاومة تمكنت من فرض واقع عملياتي جديد، يتمثل في "مسرح متعدّد المحاور"، مبني على "تخطيط مركزي وتنفيذ لامركزي"، وهو ما سمح لها بالضرب في وقت واحد في مناطق متباعدة.
وأشار إلى ظهور مثلث عملياتي جنوبي في خان يونس يضم "القرارة – عبسان – بطن السمين"، ومثلث شمالي في "بيت حانون – الشجاعية – جباليا"، وهي تشكيلات تُربك الجيش وتشتّت قدراته في أكثر من جبهة.
وأكد أبو زيد أن هذا النوع من التمركز يسمح للمقاومة بفرض بيئة قتالية مغلقة، تحاصر القوات الإسرائيلية، وتستنزفها بوتيرة متصاعدة، مشيرًا إلى أن الفرقة 99 تم استبدالها مؤخرًا في الشمال، فيما فشلت الفرقة 98 في تحقيق تقدم نوعي داخل خان يونس، رغم محاولات الاجتياح المتكررة.
علامات فشل القيادة الميدانية الإسرائيلية
لفت أبو زيد إلى أن استخدام الجيش للقنابل الدخانية والطائرات المروحية لإنقاذ وحداته من الكمائن، يكشف مدى ضعف قدرة الاحتلال على السيطرة البرية، وفشل استخباراته العسكرية في تقديم توقعات دقيقة عن طبيعة التهديدات.
وتساءل: كيف يمكن لجيش يُقال إنه الأقوى في المنطقة أن يتعثر مرارًا في نفس الجبهات؟! مؤكدًا أن تكرار الفشل في الشجاعية وجباليا وبيت حانون يُثبت أن الاحتلال لا يدرك الديناميكيات المتغيرة في الميدان، ولا يستطيع احتوائها بالوسائل التقليدية.
"عربات جدعون" تفقد هيبتها الإعلامية
رغم الترويج الكبير لخطة "عربات جدعون" من قبل القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، فإن مرور 54 يومًا على انطلاقها دون نتائج حاسمة، أفقدها الزخم الإعلامي، خاصة في ظل استمرار المقاومة في تنفيذ عمليات نوعية.
وأعادت كتائب القسام بث مقطع فيديو يُظهر فرار أحد الجنود الإسرائيليين تحت نيرانها، إلى جانب إعادة نشر صورة للرقيب أفراهام عازولاي، الذي حاول مقاتلوها أسره.
وقالت في تعليق مقتضب: "مصير الجندي القادم سيكون مختلفًا، كأسير جديد لدى المقاومة"، في رسالة تحمل بعدًا نفسيًا وتكتيكيًا ضاغطًا على جنود الاحتلال.
الاقتراب من "النقطة الحرجة".. خطر الانهيار
يرى أبو زيد أن المقاومة تهدف إلى إدخال الوحدات الإسرائيلية إلى مرحلة تُعرف عسكريًا بـ"النقطة الحرجة"، وهي تلك التي تفقد فيها القوة أكثر من 35% من عناصرها، بما يضطر القيادة إلى سحبها أو تجميد عملياتها.
وأوضح أن وحدات مثل الفرقة 99 في الشمال والقوات المتمركزة حول خان يونس باتت قريبة من هذه النسبة، ما يضع القيادة الإسرائيلية في مأزق استبدالها، في ظل أزمة نقص في القوى البشرية، ومحدودية في البدائل القتالية.
حصيلة الخسائر.. الأرقام تتضخم
منذ استئناف العدوان في مارس الماضي، قُتل ما لا يقل عن 38 جنديًا إسرائيليًا، وأُصيب 98 في عمليات قنص وكمائن. أما منذ بداية عام 2025، فقد بلغت الحصيلة المعلنة 50 قتيلاً و118 جريحًا.
وبذلك ترتفع حصيلة خسائر الاحتلال منذ بدء الاجتياح البري في أكتوبر 2023 إلى 444 قتيلاً و2768 جريحًا، وفق بيانات الجيش الإسرائيلي. لكن المقاومة تقول إن الأرقام الحقيقية تتجاوز هذه الأعداد بكثير.
نتنياهو و"إفشال" المفاوضات.. مقاومة تعزز الحضور وتفقد الاحتلال المبادرة
في ظل هذا الواقع الميداني المتفاقم، قالت حركة حماس إن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو "يتفنن في إفشال جولات التفاوض الواحدة تلو الأخرى"، مؤكدة أن مقاتليها يخوضون "حرب استنزاف مفاجئة، تُفقد الاحتلال زمام المبادرة رغم تفوقه الناري والجوي".
كما نقلت القناة 12 الإسرائيلية عن جنود قولهم إن الإرهاق البدني والنفسي بات سمة يومية في وحدات القتال داخل غزة، وهو ما يؤثر سلبًا على كفاءتهم القتالية، ويزيد من عدد القتلى والجرحى في صفوفهم.