شاءت إرادة الله أن يتوافق مجيء عيدين على المصريين في وقت واحد هذا العام، وهما عيد الأضحى المبارك، وذكرى نصر أكتوبر 1973، وكان من شأن هذا التوافق أن يضاعف البهجة والسرور في نفوس المصريين، لولا أن النظام الانقلابي الدموي أطفأ نور هذه البهجة، وأحل مكانها ظلام الحزن والأسى الذي خيم على الغالبية العظمى من المصريين الذين فقدوا ذويهم وأعزاءهم في مذابح عديدة لم تعرفها مصر من قبل، إضافة إلى آلاف المقعدين بسبب الإصابة، وعشرات الآلاف من المعتقلين والمعذبين في السجون، فضلا عن مصادرة الحريات وانتهاك الحرمات وشيوع المظالم وتفاقم الفقر والبطالة والعوز التي يعاني منها الملايين في ربوع البلاد.

إن الأعياد تأتي لحكم ومعاني ينبغي أن يستوعبها الناس، فالأعياد في الإسلام شرعت كجائزة لأداء ركن من أركانه، فعيد الأضحى يعقب مناسك الحج الذي هو لون من الجهاد بالمال والوقت والجهد والبعد عن الأهل والوطن، والتأكيد على وحدة الرسالة الإلهية من لدن إبراهيم عليه السلام حتى محمد صلى الله عليه وسلم ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾

كما أن في الأعياد معنى سياسيا معاصرا ومستمرا، وهو أن هذه الأمة أمة واحدة، مهما مزقها الأعداء، وساعدهم في ذلك الخائنون من الأبناء ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع خطبة ما زالت معانيها تتردد في سمع الزمان قرر فيها مبادئ حقوق الإنسان كأرقى ما تكون حيث قرر:

1 – مرجعية المسلمين فرادى وأمة هي القرآن الكريم والسنة المطهرة: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ»
2 – المساواة التامة بين البشر ولا تفاضل إلا بالتقوى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ، عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى»
3 – تحريم الدماء والأموال والأعراض: «إِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وأَعْرَاضَكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»
4 – الدعوة للوحدة وعدم التفرق ونبذ العداوة: «أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»
5 – صيانة المرأة وتثبيت ضمانات حقوقها وكرامتها الإنسانية: «فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ» «فاستوصوا بالنساء خيرا»
6 – تحريم الاستغلال متمثلا في تحريم الربا: «وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ »

ولو تساءلنا عن موقف النظام الانقلابي من هذه المبادئ الإسلامية الإنسانية السامية لوجدناه موقف العداوة والهدم، فموقفهم من قضية وحدة الأمة الإسلامية موقف الرفض والإدانة باعتبارها -في زعمه- دعوة للإرهاب، تزلفا لأسياده في الغرب الذين يعتبرون أن أي نهضة لدولة إسلامية -فضلا عن الأمة- خطر عليهم، ومن ثم يسعون لمزيد من تفتيت الدول الإسلامية إلى دويلات متناحرة، في الوقت الذي يتوحدون هم فيه، وقيام الاتحاد الأوربي بين الدول التي كانت متحاربة في حروب عالمية أوضح مثل ودليل.

وموقف النظام الانقلابي من مقررات خطبة النبي صلى الله عليه وسلم هو على النقيض، فالدماء والأموال والأعراض مستباحة، والشعب المصري جعلوه شعبين: شعبا يحتضنونه، وشعبا يسعون لاستئصاله، أما النساء اللواتي يرفضن ظلمهم فمصيرهن القتل كالرجال والشباب أو السجون أو انتهاك الأعراض، وهذا كله مناقض للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومن ثم لم يبق من العيد إلا احتفالات مظهرية يمارسها الانقلابيون وأعوانهم.

أما عيد النصر في أكتوبر 1973 فقد تحقق النصر ردا لاعتبار الجيش والأمة بعد هزيمة 1967، وهي النكبة التي لا زالت مصر والأمة العربية لم تتخلص من آثارها كاملة، وكانت أسباب الهزيمة كثيرة يأتي على رأسها ديكتاتورية الفرد وسيطرة الجيش على مؤسسات الدولة وانغماسه في الحياة السياسية والمغامرات العسكرية في اليمن، واستغراق قادة الجيش في الشهوات، والانصراف عن مهام التدريب والتسليح ، وتقديم أهل الثقة على أهل الخبرة.

ورغم أن الهزيمة كانت صادمة فادحة إلا أن الشعب احتضن جيشه وأعاد بناءه ووفر له كل ما يحتاجه من مقاتلين وسلاح وعتاد ومال، وتولى قيادته قادة محترفون ضاعفوا الجهود وأحسنوا التدريب والتخطيط، وابتعدوا عن السياسة، ووجهوا عقيدة الجيش نحو العدو الحقيقي، وقام التوجيه المعنوي بتوجيههم للاعتماد على الله، فكان النصر الكبير بإذن الله وفضله.

وهذه الدروس كلها نرى النظام الانقلابي يهدرها وينخرط في السياسة حتى أذنيه، وينقلب على الشرعية الشعبية ويخون الأمانة، وينكث بالقسم وينقض العهد، بل يغير عقيدة الجيش ليجعل من الشعب عدوا له يستبيح دمه ويقتل منه الآلاف ويصيب الآلاف، ويعتقل مع الشرطة عشرات الآلاف، ثم يستولي على الحكم ويعسكر الدولة، وينطلق في المجال الاقتصادي ليسيطر على غالبيته، وفي نفس الوقت يعتبر الأعداء الحقيقيين حلفاءه وأنصاره، بل يعرض خدماته العسكرية على الدول الكبرى لتحقيق أهدافها بتدمير الدول العربية الشقيقة، مقابل الاعتراف بالنظام الانقلابي ومعونات اقتصادية، وكأن جيش مصر مجموعة من المرتزقة.

إن كل هذا يعرض مصر وشعبها وجيشها لأخطر العواقب، ويجعل دروس هذا النصر العظيم هباء منثورا، ويكرر أسباب هزيمة 1967.

إذا كان الانقلابيون الدمويون يتصورون بذلك أنهم يرضون أولياءهم في الشرق أو الغرب بتعطيل حرية الشعب ونهضته عشرات من السنين، مثلما حدث في مواقف سابقة، فليعلموا أن الشباب الحر والفتيات الحرائر وكذلك سائر طوائف الشعب لن يسمحوا لهم بذلك، وسيناضلون من أجل تحرير الوطن وكسر الانقلاب وتمكين الشعب من سيادته وكرامته وإرادته، وسيظلون حتى يحققوا أهداف ثورتهم في 25 يناير (العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية) وعندها يفرحون بالأعياد بمعانيها الحقيقية ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾.

والله أكبر ولله الحمد.