وائل الحديني*
الجمهورية الثانية مصطلح درج (صانعوا السياسة فى مصر الجديدة) فى ترديدة بين الفينة والأخرى. ربما يعادل لفظ (صانعوا السياسة فى مصر الجديدة) مصطلح العثمانيون الجدد، الذي أطلق على أردوغان وجول وبولنت أرينش، وعبداللطيف شنر، وآخرهم المحنك أوغلوا.
لا يرتبط التقارب فى رأيي فى أن النمطين ينتميان فى لحظة البدء إلى إيدلوجية واحدة وان اختلف التحرك فيما بعد، بقدر التشابه الواضح فى الحيوية والحركة، وطموح المآل.
ركز أردوغان المقيد وقتئذ فى نمط علماني قاسي فرض عليه سياجاً من الجمود فى سنوات حكمه الأولى فى البعد الإقتصادي كميراث إجباري من حكومات بيروقراطية متشابهة فاسدة كانت تتحرك بالقصور الذاتي، وتحل من المشكلات ما يُسكن الجماهير ويمنعها من رفع رآية الثورة والغضب فقط.
بدا أردوغان أكثر جرأة وحنكة وامتلاكاً لروح المغامرة، فى الوقت الذي كان فيه أحمد داود اوغلوا يُقعّد للسياسة الخارجية التركية على أسس طموحة، أثبتت فيما بعد أن العلمانية (ليست إنفتاحاً) ولكنها تمثل فى جوهرها إنغلاقاً وسكوناً وتبعية.
قصور النظرية الإستراتيجية
لا يقرأ أحد لأوغلو إلا ويصطدم بكثرة استخدامه لمصطلحات (الاستراتيجية، التكتيكية)، وكأن استاذ العلوم السياسية الذي لم يظهر للعيان جيدأ مع بدايات العدالة والتنمية، يقبع فى مركز أكاديمي لمجرد التنظير والتوصيف والتحليل، لكن الصدمة الأكبر ترتكز إلى أن نظريات أوغلوا وتوصيفه وتفسيره وتحليلاته تحولت إلى مبادئ حيه توجه السياسة الخارجية التركية وتدفعها دفعاً فى عالم ديناميكي فى بعض الأحيان، استاتيكي فى احيان آخرى كثيرة، تبعاً لمستوى العوائد والمصالح، إلى المستوى الذي يظن انه يرضى طموح النخبة الجديدة أو العثمانيون الجدد كما يطلق عليهم.
فى تفسيره لابعاد مشكلة السياسة الخارجية التركية، قبل ان يغادر الشق التنظيري ربما، تحدث أوغلو عن الخلط بين التكتيكي والاستراتيجي الذي أدى إلى انسداد المنافذ أمام التطلعات، وضعف الرؤى، وإنعدام إرادة التطوير، إما لأسباب نفسية أو ثقافية او تاريخية ومؤسسية.
فقد عجزت وزارة الخارجية عن القيام بالتحليلات الإستراتيجية، والتفسيرات، وطرح البدائل، والسبب امتلاكها بنية تحتية لمراكز دراسات استراتيجية ضعيفة، فيما ابتعدت الجامعات التركية عن مهمتها كمؤسسات بحثية وتحولت إلى جامعات تقدم التعليم العالي للموطنين من أجل امتلاك مهنة فحسب.
ضعف بنية الأحزاب السياسية الفكرية وافتقادها لرؤى فى السياسة الخارجية، والشرخ المؤسسي بين المنظرين السياسيين وصانعي السياسة الخارجية - بنظره - تسبب فى الا تظهر فى تركيا وجهات نظرسياسية تبني أو توجد علاقة بين النظرية والتطبيق.
شد القوس إلى الشرق يطير السهم أبعد نحو الغرب
أكد اوغلوا أن تركيا لديها من الجغرافيا والتاريخ والإمكانيات والطموح (الآني) ما يجعلها قادرة على حجز مكاناً لها على الخارطة بين عالم يموت وعالم يولد، او ربما قوى تزول وقوى تتحرك نحو الصدارة، وبذلك هدم واحدة من اليقينيات التي تشكلت على أساسها السياسة التركية على مدار تاريخها، وهي أن تركيا بحاجة إلى الغرب اكثر من حاجة الغرب إليها، بل إن الغرب حالياً بحاجة إلى تركيا اكثر من حاجتها إليه أو اكثر من ذلك.
التوفيق بين الحريات والأمن، تصفير المشكلات مع دول الجوار والوصول إلى علاقات جيدة مع الجميع، القوة الناعمة بديلاً للقوى العسكرية، الإرتقاء الكوني، وتطوير الإسلوب الدبلوماسي، وإعادة تعريف تركيا من جديد كطرف فاعل وليس مجرداً جسر للتواصل، إلى قوة دولية تقتسم مع الكبار القرار الدولي، إتباع سياسات متعددة الابعاد ومتعددة المسالك تتلائم وتتواءم مع الظروف العالمية المتحركة.
ولم يخفى أوغلو طموحه فى أن تتحول تركيا إلى قوى مؤثرة فى النظام العالمي الجديد الذي يعتقد أنه سيتم تأسيسه خلال من 10 إلى 15 عام، كبديل للنظام الحالي، واستناداً لهذه المبادئ يرى أوغلو أهمية توفير الأدوات الضرورية للنقلة.
مصر الجديدة: نمط داخلي وطموح فورة خارجية
على عكس أردوغان، لم يأخذ الرئيس محمد مرسي الكثير من الوقت ليثبت دعائم الحكم بعد أن وضع الجيش الذي حاول البعض أن يوحي إلى عدد من قياداته انهم طرف أصيل فى المعادلة فى سياقه الطبيعي.
كما يأتي الحديث عن دولة القانون فى مصر، فى مجتمع عاش الفوضى لاكثر من نصف قرن، والحديث عن أن عهد الصدام والتخوين انتهى - للأبد - بعد عقود من الاستبداد، -كالتوافقيه العثمانية التي تبناها أردوغان، والتي تؤثر التعايش - مؤشراً على عهد تصالحي - بكل ابعاد الكلمة - مع الجميع، يستند ذلك إلى ممارسات لن تخطئها العين.
ثم تأتي الرحلات الخارجية المكوكية الغير مسبوقة لتفتح شبكات من العلاقات القائمة على رؤى توافقية بين الشراكة والمصلحة، لضبط معيار الإحتياج داخلياً، وضبط معدلات التموضع والارتكاز خارجياً، بعد عقود من التيه.
لا يمكن القول إلا أن حركة ونشاطاً كبيراً طال مصر وأخرجها من طور السكون ودفع بها إلى خطوط المواجهة، حركة لا تفتقد إلى الطموح وإرادة ايجاد موضع قدم، مع ذلك يبقى الفرق بين الحالتين التركية والمصرية شاسعاً.
فالوضع فى الداخل المصري صعب حقيقة، نظراً لاشتباكه، ولإنحدار ميراث الماضي من جينات الاستبداد والقهر، الذي يتعارض مع مفهوم الإنسانية والحياة، والجمود الذي لا يتواجد أبداً مع شرايين أوطان تتدافع فيها الدماء.
لذا يبقى أن تكون الحركة فى إطار مدروس لا يركن إلى التقليد أو العفوية، ويمتلك البدائل، ويستند إلى تفكير استراتيجي يملك المعرفة بالماضي، ويوازن بين الخطوات، ويستشرف المستقبل. حركة تتشابك مع الواقع وتفرض - بوعي - قيم ما للتغلب على فورته، سواء ضاقت المسالك أم إتسعت.
______________
كاتب صحفى